يا خليلي قد مللت ثوائي
...
بالمصلَّى وقد سئمت البقيعا
بلغاني ديارهندوسعدي
...
وارجعاني فقد هويت الرجوعا
وليس في ظاهر هذا الخبر ما يستدعي الوقوف عليه، بيد أن في خلفياته ما يوجب التأمل الطويل في مراد الأصفهاني من ورائه، فهو يريد أن يوقع في خلدنا أن أمير المؤمنين وابن عم رسول الله قد وصل من التهتك إلى أن أصبح يضيق ذرعا بكل ما يتصل بمأرز الإيمان، بل حتى ليضيق بذكر المعالم التي يتشوق إليها المؤمنون من مهبط الوحي، وفي مقدمتها المسجد الذي يضاعف الله به الصلاة ألفا، والبقيع الذي يتمنى كل منهم أن يحتضنه مع أفضل خلق الله بعد النبيين.. لأن الرشيد بات شديد اللهف للعودة إلى الأيام التي رسخت في قلبه أطياف البطالين والماجنين.. ويختم هذه التفاهات بطلب الرجوع الذي أصبح يتحكم في عواطفه..
ولكن.. أي رجوع؟.. انه رجوع السئوم الذي مل حياة الرشد والفضيلة فهو يتطلع إلى الانسلاخ منها لينقطع إلى أهوائه!..
وهكذا يصور لنا هذا المغني أثره في مشاعر الخليفة الذي أصبح صراعا لا يكاد يحتمل بلا! ن نشأته الإيمانية على أيدي الصفوة من كبار علماء عصره، والمفسدات التي أحاطت به في ذلك الجو الخليع الذي يصوره صاحب الأغاني!. وشد ماكان أبؤ المهدي بعيد النظر عندما أراد تحصينه وأخاه موسى من وباء هذا الموصلي ومغريا ته، إذ حظر عليه الاتصال بهما تحت طائلة العقوبة الرادعة، وشدَّ ماكان ذلك الساحر محكم التصميم على الاستحواذ عليهما لاستعمالهما في إفساد الوسط الخلافي كله عن طريقهما.. وفي سبيل هذا الهدف تحمل مختلف العقوبات، ولم ينقطع عنهما حتى كانا بزعمه من المستهترين، وذلك هو الطريق الأقصر إلى تحقيق كل ما يريده الشياطين.
أجل.. إن أبرز الملامح في شخصية الرشيد- كما تصوره روايات الأصفهاني- هو ذلك الصراع النفسي الذي يوزع كيانه بين الرصانة والخلاعة.. وقد رأيت مَثَل الأولى في غضبته البركانية حين رأى من أحد جلسائه ما يوهم الاستخفاف بالخبر النبوي، على حين تراه في موقف آخر متهالكا مسلوب الإرادة قد أخذه الشراب والطرب حتى ليتعرى من ثيابه فيخلعها على مغنيه، كما سبق لأخيه موسى الهادي ذات يوم وقد استخفه