كان يشرب النبيذ المختلف فيه لا الخمر المتفق على تحريمها) ولنتأمل قليلا في كل من العبارتين.

ففي الأولى ترى الذهبي يورد خبره مرسلا لا يفيد اليقين بل لا يتجاوز حدود الشائعات، ولعله إنما نقله مما كتبه بعض القُصاص ولم يبذل أي جهد في تحقيقه.

وأما خبر ابن حزم عن الشرب فقد كفانا تعقيبه عليه بما يرجح أنه من النوع غير المحرم.. ومعلوم أن بعض فقهاء العراق أيامئذ كان يقول بإباحة النبيذ، ولعل مرادهم بالمباح منه منقوع التمر والزبيب ونحوهما قبل حصول التخمر، ومن هذا النوع ماكان يُحضَّر لرسول الله صلي الله عليه وسلّم فيشرب منه ما لم يتغير طعمه، فإذا بدأ بالتغير عافه.. أما المتخمر فلا خلاف بين العلماء على تحريمه، كثيره وقليله. وفق الحكم النبوي "كل مسكر حرام" 1.

وعلى هذا فمجاهرة الرشيد بشربه تكون من قبيل الإعلان بأنه مع المبيحين لتعاطيه، وإلا فإن توقيره لمقام النبوة أشهر من أن يذكر، وحسبنا من شواهده ذلك الموقف الذي يسجله الأصفهاني نفسه للرشيد حين سمع أحد جلسائه من الأشراف يعقب على حديث نبوي بكلمة غير مناسبة، فإذا هو يتفجر غضبا ويدعو بالنطع والسيف، ولولا شفاعة بعض الحضور بتخريجه كلمةَ الشريف على وجه مقبول لذهب دمه مع الريح..

ويبقى أن نلقي نظرة تحليلية على كلا الخبرين تذكِّر القارئ بواقع لا ينبغي أن نغفله عندما نطالع بعض الكتب المؤلفة عن مجون ذلك العصر، وما أكثر تلك المراجع التي صنفها القُصاص فشحنوها بما صح وجُرح دون أن يأبهوا بقرب ذلك أو بعده من الحقيقة، إذ كانت همتهم في الغالب منصرفة إلى التنافس في إيراد الغرائب ليستكثروا من قرائها ورواتها، وليحققوا لأنفسهم المكاسب التي يلتمسونها بالوصول إلى مجالس الكبار، ومن أمثلة ذلك ما يرويه الأصفهاني نفسه عن أحد هذه الكتب الموسوم بـ (الأغاني الكبير) منسوبا إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي وفيه يقول حماد بن إسحاق: (ما ألف أبي هذا الكتاب قطّ ولا رآه، ويؤكد ذلك أن أكثر أشعاره المنسوبة إنما جُمعت لما ذكر معها من الأخبار وما يجيء فيها إلى وقتنا هذا) ومعنى ذلك أن كاتب الخبر يسمعه فيَروقه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015