وإذ كان من سنن الله في النفوس أن تنتهي الضجة المفتعلة إلى مستقرها الطبيعي، فقد فَقَدَت تلك الدفعة الدعائية زخمها أخيرا، أتيح لكل ذي وعي من القراء أن يعيد النظر في ما يطالعه من مضامين الأغاني، فإذا هو تلقاء أكداس من المعلومات التي تبعث الحيرة في نفسه فلا يكاد يهتدي إلى الحكم الصحيح بشأنها، إذ يرى فيها من الحقائق الموضوعية الموثقة ما يطمئن إليه القلب والعقل، ثم لا يلبث أن يفاجأ بأضدادها من الأخبار التي تتنافى مع العقول السليمة والمشاعر النبيلة.
ولقد بدأت الشكوك تساورني في صلاحية الكتاب، وكان باعثها في نفسي تناقضها العميق ينم جلاَل ما نعرفه من تراثنا السلفي، الذي وقفنا عليه عن طريق الثقات من أئمة العلم والفقه والتاريخ قُدامى ومحدثين، ومصادمةِ الكثير من مروياته للثابت نقلا وعقلا من صفحات ذلك التراث، وجعلتْ هذه الشكوك تتسع في نفسي كلما أوغلتُ في مطالعة تلك المَرْويات..
ولقد فاتحت بهذه الشكوك بعض الاخوة من كبار الأساتذة والمتخصصين في التاريخ وفي الأدب والعربية، فكانوا يقابلون انطباعاتي بالدفاع عن الكتاب وعن مؤلفه بالاتكاء على طه حسين وأشياعه، وبخاصة كتاب الأستاذ شفيق جبري في التوكيد على مصداقية الأصفهاني اغتراراً بمسلكه في عنعنة الأسانيد، واعتماده غير قليل من أسماء كبار المحدثين والموثَّقين خلالها.
ومن هنا تولدت في نفسي شهوة النظر بتلك الأسانيد والتدقيق في قيمة رواتها، بيد أن ظروف المعيشة والانشغال في العمل الوطني صرفتني طويلا عن الموضوع، ثم جاءت الانقلابات السياسية وما رافقها من إرهاب شيوعي وبعثي واشتراكي دَفَعَنا للهجرة إلى المدينة الحبيبة قبل ما يقارب الثلاثين من الأعوام، وتلا ذلك أعباؤنا في الجامعة الإسلامية من تدريس وإشراف اجتماعي، وعمل طويل في تنظيم المناهج، ومشاركة في تحرير مجلة الجامعة، وما إلى ذلك مما اضطرنا إلى تأخير ما تطلعنا إليه من ذلك الواجب. حتى شاء الله أن يقع في يدي كتاب الشاعر الإسلامي العراقي الأستاذ وليد الأعظمي في الموضوع بعنوان (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني) فلم أطق مفارقته حتى أتيت عليه. وكنت كلما فرغت من مطالعة قسم منه أرفع كفي بالضراعة إلى الله أن يثيبه على