تمهيد
سبق: أن التشبيه أول طريقة دلّت عليها الطبيعة، لايضاح أمر يجهله المخاطب، بذكر شيء آخر، معروف عنده، ليقيسه عليه، وقد نتج من هذه النظرية، نظرية أخرى في تراكيب الكلام، ترى فيها ذكر المشبه به فقط، وتسمى هذه بالاستعارة، وقد جاءت هذه التراكيب المشتملة على الاستعارة أبلغ من تراكيب التشبيه، وأشد وقعاً في نفس المخاطب، لأنه كلما كانت داعية إلى التحليق في سماء الخيال، كان وقعها في النفس أشد، ومنزلتها في البلاغة أعلى وما يبتكره أمراء الكلام من أنواع صور الاستعارة البديعة، التي تأخذ بمجامع الأفئدة، وتملك على القارىء والسامع لبهما وعواطفهما، (هو سر بلاغة الاستعارة) فمن الصور المجملة التي عليها طابع الابتكار وروعة الجمال قول شاعر الحماسة
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا
فانه قد صور لك الشر، بصور حيوان مفترس، مكشر عن أنيابه، مما يملا فؤادك رعباً، ثم صور القوم الذين يعنيهم، بصور طيور جوارح تطير إلى مصادمة الأعداء، طيراناً مما يستثير إعجابك بنجدتهم، ويدعوك إلى إكبار حميتهم وشجاعتهم.
ومنهم: من يعمد إلى الصورة التي يرسمها، فيفصّل أجزاءها، ويبين لكل جزء مزيته الخاصة، كقول امرىء القيس في وصف الليل بالطول:
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكَلِ (?)
فانه لم يكتف بتمثيل الليل، بصورة شخص طويل القامة، بل استوفى له جملة أركان الشخص، فاستعار له صلباً يتمطى به، إذ كان كل ذي صلب يزيد في طوله تمطيه، وبالغ في ذلك بأن جعل له أعجازاً يردف بعضها بعضاً، ثم أراد أن يصفه بالثقل على قلب ساهره، فاستعار له كلكلاّ ينوء به (أي يثقل به) ولا يخفى عليك ما يتركه هذا التفصيل البديع في قلب سامعه من الأثر العظيم، والارتياح الجميل.
ومنهم: من لا يكتفى بالصورة يرسمها، بل ينظر إلى ما يترتب على الشيء، فيعقّب تلك الصورة بأخرى أشد وأوقع، كقول أبي الطيب المتنبيء:
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال (?)
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال (?)
فانه لم يكتف بتصويره المصائب سهاماً في سرعة انصيابها، وشدة إيلامها، ولا بالمبالغة في وصف كثرتها، بأن جعل منها غشاء محيطاً بفؤاده، حتى جعل ذلك الغشاء من المتانة والكثافة، بحيث إنَّ تلك النصال مع استمرار انصيابها عليهن لا تجد منفذاً إلى فؤاده، لأنها تتكسر على النّصال التي سبقتها › فانظر إلى هذا التمثيل الرائع، وقل لي: هل رايت تصوير أشد منه لتراكم المصائب والآلام؟ ؟
تعريف الاستعارة وبيان انواعها
الاستعارة لغة: من قولهم، استعار المال: إذا طلبه عارية
واصطلاحاً: هي استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة (المشابهة) بين المعنى المنقول عنه والمعنى المستعمل فيه، مع (قرينة) صارفة عن إرادة المعنى الأصلي (والاستعارة) ليست إلى (تشبيهاً) مختصراً، لكنها أبلغ منه (?)
كقولك: رايت اسداً في المدرسة، فأصل هذه الاستعارة «رأيت رجلا شجاعاً كالأسد في المدرسة «فحذفت المشبه «لفظ رجل» وحذفت الأداة الكاف - وحذفت وجه التشبيه «الشجاعة» وألحقته بقرينة «المدرسة» لتدل على أنك تريد بالأسد شجاعاً.
وأركان (1) مستعار منه - وهو المشبه به
الاستعارة (2) ومستعار له - وهو المشبه
ثلاثة (3) ومستعار - وهو اللفظ المنقول
فكل مجاز يبنى على التشبيه (يسمى استعارة)
ولا بُد فيها من عدم ذكر وجه الشبه، ولا أداة التشبيه، بل ولا بدّ أيضاً من (تناسى التشبيه) الذي من أجله وقعت الاستعارة فقط، مع ادّعاء أن المشبه عين المشبه به، أو أدعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به الكلى «بأن يكون «اسم جنس « «أو علم جنس» ولا تتأتى الاستعارة في «العلم الشخصي» (?) لعدم إمكان دخول شيء في