وبهذه الأمثلة، ومثلها كثير، تظهر لنا ميزة " جوامع السيرة "، وبم تنفرد عن غيرها من السير، وبم يتميز ابن حزم المؤرخ في طريقته التاريخية.
فهذه الدقة البالغة في تحليل النص المنقول، واختيار الرواية الصائبة بعد الفحص والنظر والمقارنة، وتصحيح الأوهام التي تنجم عن سرعة أو قلة تدقيق ... هذه هي المميزات التي لا يستطيع أحد أن ينكرها على ابن حزم المؤرخ.
وهي مميزات لا يستكثر معها تلك اللهجة التقريرية القاطعة التي تغلب على كتابته، ولا يستنكر إزاءها قوله دائماً، " لا شك " و " لا بد ". فإن الثقة القائمة على التحري المخلص، والنقل الثابت قطعاً، هي وحدها التي تملى على ابن حزم هذه الألفاظ القوية الحاسمة.
ولقد عرف أبو محمد بين معاصريه بالضبط الدقيق في تقييد التواريخ، حتى إن تلميذه الحميدي لا يفتأ يقول كلما وجد رواية أستاذه تخالف رواية غيره: " وأبو محمد أعلم بالتواريخ "، أو كلاما ً بهذا المعنى (?) .
ولذلك جاءت هذه السيرة تحمل رأياً قاطعاً لا تردد فيه، في تأريخ الأحداث لا لأن ابن حزم مؤرخ شديد الدقة والضبط فحسب، (بل لأنه ذو رأي مستقل في طريقه التأريخ الهجري. فهو يعتبر شهر ربيع الأول وهو الشهر الذي هاجر فيه الرسول إلى المدينة أول السنة الهجرية، محرراَ بذلك تأريخ وقائع السيرة، ينسبها إلى الوقت الذي وقعت فيه الهجرة فعلاً. لا يقصد بذلك مخالفة التاريخ الهجري الذي استقر عليه المسلمون جميعاً، منذ عهد عمر إلى الآن، وإلى ما شاء الله، وهو اعتبار شهر المحرم بدء السنة الهجرية.) فصنيعه هذا من الناحية التأريخية الصرفة أدق في التوقيت وأقرب إلى الواقع التاريخي. وخاصةً حين أصبح المؤرخون يقولون: إن هذه الحادثة أو تلك حدثت في السنة الثانية أو الثالثة، وانصرفوا عن مثل قول الواقدي إنها حدثت مثلاً - على رأس خمسة عشر أو ستة عشر شهراً من مقدم الرسول إلى المدينة، وواضح أن بين التعبيرين