ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون أن يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين كما دخل في ذلك متأخروهم الذين ظنوا ذلك من التحقيق. وإنما هو زيغ عن سواء الطريق. ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها، لا تفيد الإنسان علما لم يكن عنده، وإنما تفيده كثرة كلام، يسمونهم أهل الكلام. وهذا لعمري في الحدود التي ليس فيها باطل، فأما حدود المنطقيين التي يدعون أنهم يصورون بها الحقائق، فإنها باطلة يجمعون بها بين المختلفين ويفرقون بين المتماثلين.
والدليل على أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق من وجوه:
أحدها. أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه، فقوله مثلا حد الإنسان حيوان ناطق، قصة خيرية مجرد دعوى خلية عن حجة، فإما أن يكون المستمع لها عالما يصدقها بدون هذا القول وإما أن لا يكون، فإن كان الأول، ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد، وإن كان الثاني عنده، فمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم، وكيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله، فتبين على التقديرين أن الحد لا يفيد معرفة المحدود، فإن قيل يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك المسئول عنه مثلا أو غيره، قلنا: فحينئذ يكون كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه، وهو دلالة الاسم على مسماة. وهذا تحقيق ما قلناه من أن دلالة الحد كدلالة الاسم ومجرد الاسم لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره دون ذلك بلا نزاع فكذلك الحد.