مغمورون بالصالحين؛ ففسادُهم يقتصر على أنفسهم، ثُمَّ يُرجَى لهم الصلاحُ بتأثير الوسط فيهم. فقد كان في المدينة المنافقون، وعن ابن عباس كانوا ثلاثمائة من الرجال، ومائة وسبعين من النساء، فانقرض معظمُهم؛ إذ كانوا كلهم شيوخًا إلا قيس بن عمرو بن سهل (?) المختلف في بقائه. ومنهم مَنْ تاب وحسن إسلامه، مثل ثعلبة بن حاطب، ومُعَتِّب بن قشير. ومنهم من بقي على نفاقه، وقد عد بعضُهم مَنْ بقي على النفاق اثنين وأربعين. وقد حدثت في المدينة في حياة الرسول أحداثٌ قليلة، منها ثلاثةُ حوادث في السرقة، وحادثان أو ثلاثة في الزنا، وحوادثُ قليلة في شرب الخمر، وثلاثة حوادث في القتل. على أن بعض هذه الحوادث منسوب إلى اليهود، ونوازل قليلة في الخديعة والغصب والجراح مما لا يخلو من مثله مجتمع بشري.

وكلُّ ذلك إذا عرَض في المدينة الفاضلة لا يُكدِّر صفاءَ المدينة؛ لأن الصلاح الغالب يغطي على تلك العوارض النادرة. فَوِزَانُ ذلك وِزَانُ ما يعرض للجسم السليم من صداع أو انحراف مزاج، ثم لا يلبث الجسم أن يدفع ذلك عنه، ويسرع العود إلى معتاده من السلامة. ولا تخلو المدينة الفاضلة أيضًا من العوارض الخفية اللازمة للاجتماع والمعاشرة، مثل ما ينشأ بين بعض الأزواج من عدم الملاءمة في المعاشرة، وما يعرض بين الشركاء والجيران من النزاع، وما يعرض بين الناس من الحوادث كالجراح الخفيفة والدعاوي.

كلُّ ذلك لا يقدح في فضل المدينة إذا كان العدل قائمًا، والقضاء نافذًا، وكانت نفوسُ أهلها مطيعةً لِمَا تقضى به العدالة، وقد قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015