طرأت على الحرية الفطرية وسائلُ الضغط من القسوة والتسلّط؛ فسخّرت الضعيفَ للقوي، والبسيطَ للمحتال، وزادت هذا التسخيرَ تمكنًا التعاليمُ المضلِّلة، وهي أساطيرُ الوثنية والشرك والكهانة، فجاء محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يضع عنها الأغلالَ إلى الحدّ الذي تصير به نفعًا ورحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. لا تتحقق حريةٌ تامة في نظام البشر؛ لأن تمامَ الحرية هو الانخلاع عن جميع القيود وعن كل مراعاة للغير، بأن يعيش المرء عيشةَ الوحوش، وذلك غيرُ مستطاع إلّا فيما تخيّله الشنفرى، إذ يقول:

وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُونَ سِيدٌ عُمَلَّسٌ ... وَأَرْقَطُ زُهْلُولٌ وَعَرْفَاءُ جَيْأَلُ (?)

هُمُ الأَهْلُ لَا مُسْتَوْدَعُ السِّر ذائعٌ ... لَدَيْهِمْ وَلَا الْجَانِي بِمَا دَانَ يُعْذَلُ (?)

فأمّا والإنسان مدنِيٌّ بطبع خِلقته، محتاجٌ إلى الاتصال ببني نوعه؛ لأنه ضعيف محتاج في قوام أمره إلى التعاون، فالحريةُ المطلقةُ تنافِي مدنيتَه. فتعين أن الحرية المحمودة التي يدعو إليها الإسلام والحكماء هي حريةٌ مقيدة لا محالة. فلننظر إلى القيود التي دخلت على الحرية في تاريخ الحضارة، فإن كانت تحصل منها فائدةٌ للمقيَّد بها في خاصته أو في حالته الاجتماعية العامة، فهي المعبَّر عنها بالشرائع والقوانين، ودخولها على الحرية مقصودٌ منه تعديلُها لتكون نافعةً غير ضارة. وإن كانت تلك القيودُ في فائدة غيرِ المقيَّد بها، فهي الاستعبادُ الذي قصد منه أو آل إلى إفساد الحرية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015