وقد أرشدنا إلى ذلك ما في الصحيح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: "توضأتُ يومًا وخرجت من بيتي فقلت: لألزمَنَّ رسول الله يومي هذا، ولأكونن معه، فجئتُ المسجدَ فسألت عنه، فقالوا: خرج" إلخ. (?) فقوله: "فجئت المسجد، فسألت عنه"، يُنبئ بأن مَظِنَّةَ لقاءِ الرسول هي المسجد.
ثم إن تعيينَ مكان جلوسه من المسجد لم يَجْرِ له ذكرٌ في كلامهم. والذي يظهر لي أنه كان يلزم مكانًا معيَّنًا للجلوس، لينتظره عنده أصحابُه والقادمون إليه. والظاهرُ أن هذا المكان المعين هو ما بين المنبر وحجرة عائشة - رضي الله عنها -، وهو الملقَّب بالروضة، ويدل لذلك أربعةُ أدلة:
الدليل الأول: ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". (?) وللعلماء في معنى ذلك تأويلاتٌ أظهرها - والذي مال إليه جمهورُهم - أنه كلامٌ جرى على طريقة المجاز المرسل.
فإن ذلك المكانَ لَمَّا كان موضعَ الإرشاد والعلم، كان الجلوسُ فيه سببًا للتنعم برياض الجنة، فأُطلق على ذلك المكان أنه روضةٌ من رياض الجنة بإطلاق اسم المسبَّب على السبب، أو جرى على طريق الاستعارة بأن شَبَّه ما يصدر في ذلك المكان من الإرشاد والتشريع والعلم والموعظة والحكمة المنعشة للأرواح بما في رياض الجنة من الثمار والأزهار والأنهار ذات الإنعاش الخالد، فأُطلق اسمُ المشبَّه به على المشبه. وفي هذا انباءٌ بأن موضعَ الروضة مجلسُ رسول الله الذي كان فيه معظمُ إرشاده وتعليمه الناس.