أردتُ بزكاء النسب سلامةَ السادة آباء رسول الله من وصمة الخزي يوم عرض الأمم وحسابها. وهذا فضيلةٌ دينية إليها كبيرُ التفاتٍ في شرف الابن؛ لأن النقائصَ الجثمانية إذا اعترت الأصولَ كان من شأنها أن تجر للفرع نقصًا يتطرق خِلقتَه؛ لأن الفرعَ سُلالةُ من الأصل، أو يتطرق عِرضَه، أو رمق عيون القوم إياه، إذا كانت نقائصُ الأصول مِمَّا يُذَمُّ به الأصلُ في عرف البشر أو عرف القبيلة، كعدم الحصانة في الأمهات وخسة الفعال في الآباء، كما أشرنا إليه آنفا.
وأما الأغلاطُ الاعتقادية والعلمية، فهي أشياء تتعلق بالتفكير، وهو حركةُ النفس في المعقولات. وتلك من الانفعالات النفسية المتجددة والمتغيرة، وليست من أصل الخلقة. ألا ترى أنها تقبل الإيجادَ والاضمحلالَ والزيادةَ والنقصان، بحسب البيئة والتعليم وحسن التلقِّي وصحة العلوم والانكاب على التمحيص وبحسب أضداد تلك؟ فربما صدئت عقولٌ نابهةٌ ذكية بسبب الإعراض عن استعمال ذكائها، وربما ثَقِفت عقولٌ بطيئة بقوة الكد والانكباب. فعلمنا من ذلك أن الأعراضَ الفكرية لا ينجر مفعولُها من الأصل إلى فرعه، ولا يثبت حكمُها إلا لصاحبها خاصة.
فالنظرُ إلى الحالة الاعتقادية في أزمان الجاهلية إن كان من توقُّعِ تطرق النبز للمتَّصِف بها، فأهلُ الجاهلية كانوا يَعُدُّون الذين اعتقدوا اعتقادَهم من كُمَّل سادتهم، فلا يُتوقع منهم أن ينبزوا الرسولَ - عليه السلام - بتقدير كون بعض آبائه كانوا يعتقدون اعتقادَ الجاهلية. وإن كان من جانب توقُّع غضِّ نظر المسلمين، فالمسلمون قد تقرر في قلوبهم من جلالة قدر الرسول - عليه السلام - وفضله ما لا يخالجهم معه خاطرٌ من خواطر التنقيص، [قال تعالى: ] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128].
وأما من جانب الحقائق، فتنقيصُ المرء لأحوال أصوله تنقيصٌ وهمي، إذ الحقيقةُ لا تسمح بأن يوصف أحدٌ إلا بما فيه. والأمورُ الوهمية إنما تظهر آثارُها في العالم الدنيوي، وأما العالم الأخروي فهو عالَم الحقائق، فلا يُنتقص المرءُ فيه