يأتسون بها آثارَ أسلافهم في مرتقى الكمال، فيحصل من ذلك كمالان: كمالُ الذات وكمالُ القدوة، ومن حيث هو قاطعٌ لألسنة الحاسدين الذين يحسدون أهلَ الكمال على كمالهم، والمعاندين لكل مَنْ يدعوهم إلى خلع ذميم أعمالهم، فإذا لم يجدوا مغمزًا فيمن حسدوه وعاندوه التمسوا له ما يحفُّ به من العوارض، ولا شيء يحف بالمرء أشدُّ به تعلقًا من حال آبائه.
فمن أجل ذلك شرف الله قدرَ نبيه بأن قدر له في الأزل آباء كانوا في مرتبة السؤدد وأجل، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، قرئ في الآيتين بضم الفاء في لفظ أنفس على أنه جمع نفس، فيكون معناه من نسبهم؛ لأن لفظ النفس متعيِّنٌ في هذا المقام لهذا المعنى. ويُفهَم منه أن المقصود به نسبٌ خاص، وهو النسب الرفيع، أي خير أنسابهم بقرينة مقام المدح والمن. وقرئ بفتح الفاء من أنفس، ففُسِّر بأنه اسم تفضيل مشتق من النفاسة، أي من أشرفهم، والمراد شرف النسب. رُوِيَ عن علي بن أبي طالب يأْثُرُه إلى رسول الله أنه قال: "من أَنْفَسِكم نسبًا وصهرًا". (?) وفي صحيح البخاري عن أبي سفيان في حديث هرقل أنه كان من كلامه مع أبي سفيان أنه قال له: "وسألتك عن نسبه (يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -)، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسلُ تُبعث في نسب قومها". (?)
إن شرف النسب يتقوَّم من شرف القوم وشرف العشيرة، ومن نزاهة سلسلة الآباء والأمهات عن أن يلتصق بهما ما يثلم ذلك الشرف، ويعود نقصه بفضاضة في شرف الخلف. فأما شرفُ القوم وشرف العشيرة فحاصلٌ في شرف العرب من بين الأمم، وفي شرف قريش وفي شرف بني هاشم. ولستُ الآن بصدد تفصيل الكلام فيهما؛ لأن ذلك يطول، وأقتنع هنا بما رواه مسلم في صحيحه والترمذي عن واثلة