وهنالك أصلٌ آخر، وهو أن للشمس حركةً انتقالية خاصة في فلكها، وهو انتقالُها في دائرة فلكية من مبدأ تلك الدائرة إلى أن تعود فتلوح للناظر في السمت الذي ابتدأ منه تنقلُها. ويحصل تمامُ ذلك الانتقال في مدة السنة الشمسية التي تستمر ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا في دائرة فرضية مقَسَّمة إلى اثني عشر جزءًا، معلمة للناس بتجمع لنجوم ذات أشكال لها أسماء تقريبية يعبر عنها بالبروج. وبها ينقسم العام إلى الفصول الأربعة، وهي دائرةٌ مضبوطة بابتداء الوقت الذي اصطلح علماء الهيئة على جعله مبدأ ضبط حلول الشمس في برج الحمل. فهذا هو التنقل الحقيقي للشمس في فلكها، وهو المعبر عنه بالجري أو بالسير، وإسناده إلى الشمس إسناد حقيقي.
فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى معنى قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]، فإنه أثبت للشمس جريًا، ولا شك في أن إطلاق الجري على تنقل جرم الشمس من حيز إلى حيز في دائرة فلكها المفروضة إطلاقًا مجازيًّا؛ لأن حقيقة الجري هو نوع من مشي الحيوان ذي الأرجل مشيًا سريعًا، وإنما تنقل الشمس تنقلُ دحرجةٍ وتقلقل، وأطلق عليه الجري لعظيم أبعاد المسافات التي تقطعها الشمس.
فللتوفيق بين معاني القرآن وقواعد العلوم يتعين حملُ الجري في هذه الآية على تنقل الشمس في فلكها الذي تتم به دورةُ العام الشمسي؛ لأن إسناده إلى الشمس إسناد حقيقي والأصل في الإسناد الحقيقية. وهذا هو المناسب لقرنه بمنازل القمر في الجملة المعطوفة قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39]، فإن منازل القمر ثمان وعشرون منزلة يتنقل القمر في دائرتها من مبدأ نهاية في مدة شهر قمري وهو نظير تنقل الشمس في دائرة بروجها في مدة عام شمسي.
وعبر بالفعل المضارع في قوله: "تجري" لإفادة تكرر هذا الجري وتجدده. واللام في قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ} بمعنى "إلى" مثل اللام في قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 13, الزمر: 5]. ألا ترى أن نظيره في سورة لقمان: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [لقمان: 29] بحرف "إلى". والمستقَرُّ مصدر ميمي بمعنى الاستقرار، أي انتهاء