وكما ترى من نفسك استنكافًا عن بعض اللذات، وترى غيرَك يرغب فيها، بل ترى من نفسك الفرقَ في لذاتك بين حالتي الصبا والفتوة مثلًا. كذلك لا تشك أنَّ الحكمة إنْ أشرقت على قوم، ربما نزعت كلَّ هوس من قلوبهم، فرأوا الدنيا كلَّها سفاسفَ وغرورًا، كما ترى أنت اليوم الرقصَ مع الصبيان وتلقفَ الكرة جنونًا بعد أنْ كانا شغلَك الوحيد. أُولئك هم السعداء الذين استوى عندهم الكدر والطرب، فعاشوا وقلوبُهم مُمتَّعةٌ بإدراك الحقائق الذي وراءه للعاقل مطلب، وهذا قسمٌ شريف فات أبي الطيب إذ يقول:

تَصفُو الْحَيَاةُ لِجَاهِلٍ أَوْ غَافِلٍ ... عَمَّا مَضَى فِيهَا وَمَا يُتَوَقَّعُ

وَلِمَنْ يُغَالِطُ فِي الْحَقَائِقِ نَفْسَه ... وَيَسُومُهَا طَلَبَ المُحَالِ فَتَطْمَعُ (?)

وذكَّرني تشَكِّي الناس من سوء معاملة الزمان عادةً من عوائده، وهي انزواؤه لِمَنْ لا يقدره قدره أو مَنْ لا ينتفع به، وتزلُّفه لمن عَدِم العقل والفضيلة، وأنه لا وصولَ إلى مقاصده وأمانيه من الحكيم بما سهلت الدنيا بين يديه لولا أن يخونه الطريق، فيضله عن كنه مقاصده. وكما ترى الجمادات تنال بدون ارتقاب ما تشيب دون نيله رؤوسُ الشباب، وترى الزُّجاجَ ينال من الثغور ما تتلظى دونه أربابُ الأساورة والقصور، (?) فلا تتعجبْ ممن قرب إلى الجمادية أن تكون الدنيا أسْوَقَ إليه، وأنها لا تدين لِمَنْ يسخر منها، وإنما تقرب مَنْ تضحك عليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015