مكان شعر بشار من حفظ التاريخ في الجاهلية والإسلام:

لقد عرفتُ شعرًا كثيرًا لشعراء العرب في الجاهلية والإسلام، وعُنيت بتتبع ما في خلاله من أحوال العرب وتاريخهم، فما رأيت شاعرًا أوفَى ذِكرًا لها وإشارة إليها مثل بشار. ذلك أن شعراء الجاهلية ما كانوا يحتفُون بذكر أحوال حياتهم ومعتقداتهم عدا أحوال الغرام والضيافة والحرب؛ لأن تمَثل تلك الأحوال نُصْبَ أعينهم يجعلهم يستسمحون الحديث عنها لرواة أشعارهم، إذ يرونه من الإخبار بالمعلوم، وقد قفى على أثرهم في ذلك شعراء العصر الأول الإسلامي، أمثال ذي الرمة والعجاج والفرزدق، وجرير، لقربهم من بداوة شعراء الجاهلية ولاشتغالهم بأبواب الهجاء من الشعر.

وقد كانت نشأةُ بشار عقب ذلك في عصر طُوِيَ فيه بساطُ الحياة الجاهلية، وشبّ في النفوس الوَلَعُ بأخبار العرب وحال حياتهم، ليكون ذلك عَونًا لهم على فهم أدبهم. وكان بشار أولَ مَنْ نشأ على معرفة أحوال العرب، وأدرك بقيةً من حياتهم في مواليه بني عُقيل حول البصرة، وملأ وِطابَه من محض أدبهم كما قدمناه. وقد خوّله تغلغلُه بينهم معرفةَ خَفِيِّ أحوالهم ومشهورها وتلقن أخبارهم المحفوظة على ألسُن بقيتهم، فكان في ذلك مثل ابن القِرِّيَّة وفوق الأصمعي، فبعثه وَلَعُه بهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015