ومعلوم أن كل متعاطي صناعة هو مفتون بسمعة أساطينها ونوابغها. فالذي دعا أهلَ الأدب العربي إلى نزعة النسج على منوال المتقدمين أن الذي يفرع منهم ذروة البلاغة لا يزن هواة ذلك الفن مقداره إلا بميزان قربه من مشاهير أهل صناعتهم، فذلك الذي كان يبعث فحول شعراء الإسلام على التشبه في شعرهم بفحول الجاهلية تحديًا للناقدين ابتداءً، ثم لا يلبث ذلك التحدي حتى يصير لهم عادة، فلا يزالون يُعْجَبون بانتفاء الفروق بين شعرهم وشعر العرب القح؛ لأن الموازنةَ بين الشعرين تكون أمكنَ متى اتحدت طريقةُ الشعرين.

ولم يزل المحكمون في الأدب وفي العلوم يشترطون على المتناظرين وَحدةَ الموضوع. وعلماء الأدب يكلّفون المتأدبين نظمَ القصائد في الغرض الواحد والوزن والروي ليظهر القرب والبعد في الإجادة، كما يشهد بذلك اشتراط بديع الزمان وأبي بكر الخوارزمي على أنفسهما محاكاةَ قصيدة أبي الطيب: "أرَقٌ على أرقٍ ومثلي يأرَقُ" في مناظرتهما في الأدب. وبذلك يتبين صنيعُ الحريري في التحدي بمحاكاة شعر البحتري في المقامة الثانية (?)، وليس في المولَّدين من إذا أراد أن يشابه العرب في شعرهم شابههم مثل بشار، وخذ مثالًا من ذلك قصيدته التي طالعها - وهي في الديوان (?) -:

طَرِبْتَ إِلَى "حَوْضَى" وَأَنْتَ طَرُوبُ ... وَشَاقَكَ بَيْنَ "الأَبْرَقَيْنِ" كَثِيب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015