وقد تصدَّى عبدُ القاهر في أول "دلائل الإعجاز" لإبطال شُبَه مَنْ ساء اعتقادُهم في الشعر، فانظره (?). قال الجاحظ في البيان: "قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يُقّدَّمُ على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقَيِّد مآثرهم، ويُفخم شأنَهم ويُهول على عدوهم إنْ غزاهم، ويُهيبُ من فرسانهم، ويُخوف من كثيرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعرُ والشعراء واتخذوا الشعر مكسبَة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيبُ عندهم فوق الشاعر. ولذا قال الأوَّل: "الشعر أدنى مروءة السري، وأسرى مروءة الدني. . . ولقد وضع الشعرُ من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة". (?)

وقولهم: "أدنى مروءة السَّرِي"، هو من الدناءة، بمعنى الحِطَّة؛ أي هو أحط مروءة السري. فالمروءةُ اجتماع الصفات التي تعتبر في الرجال، وقد اشتُقَّت من لفظ المرء، كما اشتقت الرُّجلة من لفظ الرجل. فالشعر من المزايا التي يمتاز بها صاحبُها؛ إذ لا يحصل لكل أحد، فجعلوه أقلَّ كمالاتِ الإنسان الشريف، وجعلوه أشرفَ كمالاتِ الدَّنِيِّ، وحسبُك بهذا ثناءً عليه. ولكن غرضَ المؤلف التنبيهُ إلى أعراضٍ أوجبت تنقُّصَ الشعر، وأن النثر سالم من تلك الأعراض، وأنه - وإن شغل أصحابَه عن عظائم الأمور - لم يخلُ من إفادتهم قبولًا في قومهم، ونفعًا يجره إليهم. وقد قال بعضُ شعراء بكر بن وائل:

أَلْهَى بَنِي تَغْلَبٍ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ ... قَصِيدَةٌ قَالَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015