وإنما أراد بتعادل الأوزان هنا تساويَ سموط الأسجاع - وهي المسماة بالقرائن - التي تنزل من الكلام المسجوع منزلةَ المصاريع للشعر، فتعادُلها بأن تكون متساويةَ المقدار في النطق معتدلةً فيه. وذلك أصلُ السجع، وبمقدار تساويه تتفاوت أقدارُ الكُتَّاب. مثال المعتدل التام قول الحريري في المقامة الثالثة: "وأودَى الناطق والصامت، ورثى لنا الحاسد والشامت" (?). ومن هذا القبيل قولُ المؤلف في صدر هذه المقدمة حسبما في النسخة التونسية: "وهو مستودع آدابها، ومستحفظ أنسابها، ونظام فخارها عند النفار، وديوان حجابها عند الخصام". (?)
وقد يكون بينها تفاوتٌ قليل، كقول الحريري في المقامة التاسعة والعشرين: " [قال الحارث بن همَّام: ] ألجأني حكمُ دهرٍ قاسط، إلى أن أنتجعَ أرضَ واسط". (?) ولا يجوز التفاوتُ الكثير بين القرينين وبالخصوص إذا كانت القرينة الأولَى أطول من الثانية. ومما يندرج في تعادل الأوزان أن تُقابَل زنة اللفظ بمثلها في صيغة الاشتقاق من فعل أو وصف، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]، فقوبل ضللت باهتديت، وهما فعلان ماضيان، وقوبل أضل بيوحي، وهما فعلان مضارعان. ومن تعادل الأوزان قولُ الحريري في المقامة الأولى: "وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه". (?) وكلُّ هذا معدودٌ من المحسِّنات اللفظية، فلا يصير البليغُ إليه إلا حيث لا يُوجد ما يقتضي خلافَه من جهة المعنى البلاغي، ويُراعَى قريبٌ منه في سموط الترسل غير المسجوع.
وإنما حشر المؤلفُ هذا في عداد الخصائص العائدة إلى الألفاظ؛ لأن الكاتب يغير ترتيبَ المعاني في سجعه تغييرًا يهيء لموافقة هذا الأسلوب اللفظي، فكان بسبب