الطريقة من الاعتبار، جرى الفريقُ الثاني الذين قدَّموا النظرَ إلى جانب المعاني. وهذا المذهبُ هو الذي احتفل به الشيخ عبدُ القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" في الفصول التي ترجمها بـ "فصول شتى في أمر اللفظ والنظم". (?) فظهر أن المقصودَ من صرفِهم الاهتمامَ إلى العناية بحالة الكلام اشتراطُهم أن يكونَ كلامًا فصيحًا بفصاحة كلماته في حدِّ ذاتها، وبفصاحة تراكيبها عند اجتماعها.
فأما فصاحةُ الكلمات فلأنها أجزاءُ الكلام، فتعين أن تكون الأجزاءُ فصيحةً ليكون مجموعُ الكلام فصيحا. ومعنى فصاحة الكلمات سلامتُها من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة قواعد اللغة المستَقْرَاةِ من استعمال العرب. وهذا ما يقتضيه تشبيهُ المؤلف الألفاظَ بالجواهر والدرر؛ إذ لم يختلف أئمةُ البلاغة في أن من شرط كون الكلام فصيحًا أن تكون كلماتُه فصيحة، ولم ينكروا أن الألفاظَ المفردة تتفاضل بمقدار تفاضلها في فصاحتها. ويظهر ذلك جليًّا في المترادفات، فلا يختلفون في أن لفظة أسد أحسن من لفظة فدوكس، وقد عابوا استعمالَ المتنبي ألفاظ القلقلة في قوله:
فَقَلْقَلْتُ بالهَمِّ الَّذِي قَلْقَلَ الحَشَا ... قَلَاقِلَ عِيسٍ كُلُّهُنَّ قَلَاقِلُ (?)
قال الشيخ في دلائل الإعجاز: "وقصارى تفاضل الكلمتين لا يكون أكثرَ من كون إحداهما مألوفةً والأخرى غريبة وحشية، أو تكون حروفُ هذه أخفَّ، وامتزاجُها أحسن، ومما يكدُّ اللسانَ أبعد". (?) وقال: "ومن المعلوم أن لا معنى لعبارات البلاغة والفصاحة والبيان التي يُنسب فيها الفضلُ والمزيةُ إلى اللفظ دون