المنهج الثاني: منهج التفاصيل في الصور العملية لمسائل الأحكام والتوثيق، ودراستها من حيث الوفاء بتحقيق المصالح الشرعية المنوطة بها حسب مقتضيات الأحوال. وقد ظهرت على هذا المنهج الثاني كتبُ الأحكام والتوثيق التي نوهنا بها، وتبعها ازدهارُ التحقيق الفقهي في جزئياتِ المسائل العملية الذي طفحت به الفتاوى والرسائل في مسائل الالتزام، وصيغ الأحباس، وعقود المغارسة، وبيع الصفقة، ومسائل الأبنية والجدران، وحقوق الجوار، والإنزال والخلو، وبيع الهواء، وأحكام العرصة، والساباط والدكانة، وحقوق الطريق.
إلى غير ذلك مما برزت به أنظارٌ فقهية جديدة، وقوالبُ تعبيرية مبتكرة، حققت مواضيعَ تلك الأنظار، وأضافت في كل المواضيع شيئًا جديدًا إلى المصطلح الفقهي مأخوذًا مما تطلَعُ به الحوادث وتنزل به صورُ الأقضية، ولا سيما في الأندلس والمغرب. وإن ذلك ليتمثل في مجاميع الفتاوى والرسائل، مثل كتاب "جامع مسائل الأحكام" للبرزلي فقيه تونس في القرن التاسع، (?) وكتاب "المعيار" للونشريسي فقيه الجزائر في القرن نفسه، وهو موسوعةٌ كاملة طُبعت بفاس في اثني عشر مجلدًا في أوائل هذا القرن. (?)
وقد نشأ من هذا الاتجاه القضائي التوثيقي في الفقه المالكي أن انفتحت للقضاء أبوابٌ واسعة للاجتهاد في الأخذ بالأحكام المنصوص عليها في دواوين المذهب على وجه قد يحملهم على مخالفة المنصوص أو المشهور، إذ يرون ذلك أدعى إلى تحقيق مقصد الشرع من صلاح الناس، فيصبح جريانُ العمل القضائي مخالفًا في جزئياته لما هو مأخوذ به في كتب الفقه.