وتلاقى في هذه الكتب مع كلام مالك المدوَّن عنه كلامُ تخريج وتوجيهٍ وتفسيرٍ لأصحابه، اكتسب به كلامُ مالك وضوحًا في دلالته، ودقةً في انطباق ألفاظه على معانيها، كما نرى في المدونة في "كتاب حريم الآبار". قال سحنون بن سعيد:
"قلت لابن القاسم: هل للبئر حريم عند مالك، بئر ماشية أو بئر زرع أو غير ذلك من الآبار؟ قال: لا، ليس للآبار عند مالك حريمٌ محدودٌ ولا للعيون إلا ما يضر بها. قال مالك: ومن الآبار آبارٌ تكون في أرض رخوة، وأخرى تكون في أرض صلبة أو في صفًا، فإن ذلك على قدر الضرر بالبئر. قلت: أرأيتَ إن كانت في أرض صُلبة أو في صفًا، فأتى رجلٌ ليحفر قربها فقام أهلها فقالوا: هذا عطنٌ لإبلنا إذا وردت، ومرابض لأغنامنا وأبقارنا إذا وردت، أَيُمنع الحافر من الحفر في ذلك الموضع، وذلك لا يضر بالبئر؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئًا، إلا أنِّي أرى أن يمنع من ذلك؛ لأن هذا حقٌّ للبئر ولأهل البئر إذا كان يضر بمناخهم، فهو كالإضرار بمائهم. قلت: فإن أراد رجلٌ أن يبني في ذلك الموضع، أكان لهم أن يمنعوه كما كان لهم أن يمنعوه من الحفر فيه؟ قال: نعم، ولم أسمع هذا من مالك، ولكن لما قال مالك إذا كان يضر بالبئر منع ذلك، فهذا كله ضرر بالبئر وأهله". (?)
فنرى أن هذا الحوار قد انتهى إلى إعطاء قول مالك: "ما يضر بالبئر يمنع"، دلالةً واسعة على الضرر بأنواعه، سواء أتعلق بالبئر ذاتها، أم بمرافقتها، أم بمصالح مالكيها. وفي العتبية في سماع عيسى بن دينار عن ابن القاسم:
"سألتُ ابن القاسم عن قوم تفوتهم الجمعة فيريدون أن يجمعوا، قال ابن القاسم: كنتُ مع ابن وهب بالإسكندرية في بيت فلم نحضر الجمعة لأمر خفناه، ومعنا ناسٌ كانوا جاؤونا فأردنا أن نصلي، فقال ابن وهب: نجمع، فقلت أنا: لا، فألح ابن وهب فجمع بالقوم، وخرجت أنا عنهم. فقدمنا على مالك، فسألناه عن ذلك، فقال: لا تجمعوا, ولا يَجمع الصلاةَ مَنْ فاتته الجمعة، إلا أهل الحبس