وقد أتى في هذا الباب طرف مما يتعلق بآثار هذه القوانين في اللغة العربية، غير أنه جاء عرضًا ومن ناحية الاستدلال وحده على صحة القانون الشامل لسائر اللغات. وأظنه يكون أجدر بالأستاذ أن يفرد لمثل هذا الشأن كتابًا يتَّبَّع فيه العربية ولهجاتها واختلافها على العصور وفي البلدان المتباينة. وذلك لأن إدراك ذلك في اللغة التي يعرفها القارئ أتمَّ معرفة، يكون أقرب وأسهل منه في لغة أجنبية عنه، قلما يتاح له أن ينفذ إلى تاريخ ألفاظها نفاذًا يعينه على حسن فهم الموضوع الذي يعالجه المؤلف. وليس في الذي أقول غض من شأن الكتاب في ذاته، بل هو نقص في المكتبة العربية نحب أن يسده من كان أهلًا له وقائمًا به. وقد رأيت الدكتور وافي حسن التهدِّى إلى أشياء من ذلك في كتابه، فلذلك أحببت له وللعربية أن يتولى تأليف كتاب يغني القارئ العربي عن كثير من فضول القول في لغات لا يسهل عليه أن يضطلع بعبئها مستقلًّا، والفائدة التي تهدى إليه من مثل ذلك خليقة أن تحفز الهمة إلى إنجازه.
أما الفصل الثاني وهو صراع اللغات، من ناحية نزوح العناصر الأجنبية إلى بلاد فيها لغة قائمة، ومن ناحية تجاور الشعوب المختلفة الألسنة، ومن ناحية العلاقات التجارية والثقافية والأدبية، فهو أقرب إلى دراسة تاريخ اللغات وما كان من أمرها بين الحياة والموت وبين الغلبة والهزيمة، وكيف يتم أحد هذين الأمرين للغة على أخرى، وما هي الأسباب المفضية إلى هذه العاقبة. ومعظم هذه الأسباب كما قال المؤلف نفسهُ تردّ في أخراها إلى العوامل الاجتماعية التي عالج بحثها في الفصل الأول، بل هي في الحقيقة شيء لا مفر منه في العالم الاجتماعي كله.
وأما الفصل الثالث: وهو تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات، فهو عندي من أقوم فصول الكتاب. ولو كنت مؤلفًا في مثل ذلك لبدأت بهذا الباب أو بأكثره، لأن اللغة الواحدة تتشعب من أول نشأتها إلى شُعَب من اللهجات قبل أن يلحقها التطور اللغوي الذي بينه المؤلف في أول كتابه. فعندئذ تتشعب مرة أخرى بعامل من العوامل الكثيرة التي تصطلح عليها حتى تستقل لهجة عن لهجة فتصير إحداهما لغة ثانية. والقوانين التي تخضع لها اللغة في انشعابها إلى لهجات