تعيش البهائم ترعى حيث طاب لها المرعى. فهذه النفوس المستيقنة المؤمنة بحقها إيمانًا لا يتزعزع تبقى دائما في تجديد لمعانيها وآمالها ولا ترتد عن أعمالها التي ينبغي لها أن تعملها، وتمضي في الحياة تتكلف أثقال العيش، وتتوثب في نيران الأفكار، وتقاتل عن حقها قتالا لا يلقي السلاح أبدا إلا أن تفرغ الحياة من تحريك النفس بنفحاتها المنعشة.

وهذه النفوس لا تعرف كيف تستقبل أعمال الحياة في بُلَهْنِيَة (?) من العيش المترفِّه الناعم الرقيق، ولكنها تريد أن تعرف كل ساعة كيف تغتصب أعمال الحياة اغتصابا بالافتراس والانقضاض والسقوط على رغباتها كما ينقضّ النسر على أفكار عينيه المتمثلة في فريسته. فإذا أعطى القدر هذه الفرائس طريقا إلى النجاة من مخالبه! لم يرتد هذا النسر إلى صخرته العالية إلا لينفض الجو بعينيه مرة أخرى، حتى يقع بصره على أفكار جديدة تتخايل له، ويبقى حياته على ذلك يعاني آلام الشوق المتضرم الدائم حتى تقول له الحياة: مكانك، لقد فرغتَ فاسكن الآن!

وفي هذه الحالة المؤلمة تجد النفس شيئا كثيرا من المضض والحسرة، ولكنها لا تضعف، بل يزيدها الألم عنادا في المطالبة بحق وجودها، لإثبات شخصيتها في داخلها إثباتًا صحيحا بالعمل، أنتج العمل أو لم ينتج، لا تبالى أي ذلك كان، وعندئذ تكون في جو من الأهوال القاسية الفظيعة التي لا تفتر، وتعيش في تهاويل من خيالها وأحلامها وآمالها، وتنقض عند كل بارقة بقوة الحياة التي تندفع في أنحائها اندفاع التيار الأعظم أمسك عن تدفقه لحظة ثم أطلق. أي شيء في الحياة بعدئذ يستقر على دفاع هذا التيار؟ وأي شاطئ عندئذ يستطيع أن يحتمل صدمات هذه الأمواج المجنونة، وأي سد يحتمل الثبات في وجه هذه القوى الهائلة المفزعة التي لا تلتفت وراءها، وليس لها إلا الأمام يطالبها ويجذبها ويتطارد لها لتدركه بعنفوانها وطوفانها المجنون؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015