هذا هو ينقلب إلى بداوتهِ! إلى رقّة البادية العنيفة في رقّتها. أجل هنَّ النساءُ أيضًا، ولكنهُ لا يَتَضنَّى ولا يتهالك، بل يصف وهو جليدٌ، يقول هنَّ بيضٌ تتهادى، ثم يصرخ صرخة الظامئِ إليهنَّ يريد أن يروى منهنَّ ما استطاع، فهنَّ الغمام في آخر اليوم يتهلل بالمطر. هكذا رآهنَّ جملة أول ما رأي، ثم تستقرُّ أشواقهُ فيتأمل تلك الأبدان الفاتنة، فإذا الساعدُ ريَّان ممتلئٌ، وإذا الساق تامةٌ مستويةٌ لا عَضِلةٌ ولا مضطربة، كأنها ساق البردى في نعومتهِ ولينهِ بل هنَّ أخدل وأشد امتلاءً واستواءً. ثمَّ يراهنَ تتبعهنَّ نفسهُ، فيفارق سَورة المشتاق إلى هدأة المتأمّل، فيرى خطوهنَّ كأنهنَ قَطا يدبُّ على الرمل، بل هنَّ في مشيتهنَ في الرمل اللين السهل أحلى مشيةً. كأنما يخشينَ أن ينهال الرمل من تحتهنَ. ثم
يدنو إليهنَّ فيسمع اللحن الحلو الفاتن الذي يروى من ظمئهِ، إنهُ في نفس أحسن بردًا من شهدٍ مذابٍ في أخصر ماءٍ وأبرده وأنقاه، ثم يسكن ظمأه إليهنَّ شيئًا فشيئًا، فيرى كلماتهن تنفذ في سر قلبه، فإِذا أراد منهنَّ، ما كان يجد في كلام ابن أبي ربيعة وأمثاله من الفتيان اللاهين بالحب، وجد من حديثهنَّ، بعد الإطماع، ما يخذله وينهاه. فتضطرب نفسه من أعماقها باليأس منهن بعد الأمل، فيقول:
أولئك لا يوفينَ شيئًا وعدنهُ ... وعنهنَّ لا يصحو الغوى المعذّل
فهذا هو البدويُّ الفنان قد عاد مرة أخرى إلى البادية وأنكر لَهْو الحضر ورقته. ثمَّ ينطلق بعد ذلك -وقد كسب من "الراعى النميرى" دقة التأمل- يصف هذه الأرض التي نمشى عليها فيقول:
فما أمُّ أولاد ثكولٌ؟ وإنما ... تبوءُ بما في بطنها حين تَثْكَلُ
يسائل: ما هي أمُّ أولادٍ، ومع ذلك فهي لا تزال تفقدهم، فإذا فقدتهم امتلأَت بطنها بهم كما تمتلئ الحامل، فيثقلها هذا الحمل الجديد، يعني من يموت من الناس.
أَسَرَّتْ جنينًا في حشّا غيرَ خارج ... فلا هو منتوج ولا هو مُعْجَلُ
وهذا الذي يموت، فتُخْفِيه في حشاها، ويعود بدفنه جنينًا، لا هو يخرج إلى