أهل الجاهلية كامرئ القيس، ويسجُد بين يديه شعر المعاصرين كجرير والفرزدق والأخطل! إنهُ إلى اليوم فتى حائرٌ يقلد، لم يستول على طريقته.
ولم يلبث الفتى أن انتبه من غفلة على صوت جديد ونغم فنيّ ساحر: ذلك النغم البدوى الذي يترجم عن حب صاحبه للبادية، وعن عشقه للإبل، فهو ينعتها نعتًا لم تسمع أذن عربيّ مثله، فحل من شعراء الإِسلام المعاصرين، "عُبَيد بن حصين" الذي لقبوه "الراعى"، و "راعى الإبل"، لشدة شغفه بالإِبل وجودة لغته لها. ويهوِى "غيلان" إليه، ويلازم شعره يرويهِ ويتتبعه، ثم يصاحب هذا "الراعى النُميرى" حتى يكون راويته ويجعله إمامه. ولكن الفتى لم يخلق للإِبل ونعتها فيقصر قلبه عليها. إنهُ سرّ البادية، ولن تكون الإبل وحدها هي كلَّ همه من البادية، ولكن هكذا قدر لهُ، فيصحب الراعى ويحبه ويسلك معهُ المسالك، ليأخذ عنهُ دقة العبارة عن غامض النعوت والأوصاف، وليزداد تأملًا فيما يرى من أسرار البادية، كتأمل "الراعى" في الإبل التي استخرج غاية أوصافها. ولكن. . . إن بين جنبى هذا الفتى قلبًا يرتعد. قلبٌ محروم ظامئٌ يبحث عن رِيّهِ. هؤلاءِ النساء! أهو يبحث عنهنَ ليلهو بهن كما يلهو عمر بن أبي ربيعة وأشياعه، أم يبحث بينهنَ عن سرّ ضائع يريد أن يجده؟ أيقول كما قال أوّلا وهو يقلد ابن أبي ربيعة؟ . . . كلّا بل يقول:
وبيضًا تهادَى بالعشي كأنها ... غمام الثُّريَّا الرائحُ المُتَهَلِّلُ (?)
خِدالا قذفنَ السورَ منهنَّ والبُرَى ... على ناعم البَرْديّ بل هنَّ أخدلُ (?)
قصار الخطى يمشينَ هَونًا، كأنهُ .... دبيبِ القطا، بل هنَّ في الوعَثْ أَوْحَلُ (?)
نواعمَ رَخْصاتٍ كأن حديثها ... جَنَى النحل في ماء الصفا مُتَشمَّل
رقاقَ الحواشي، مُنفذِاتٌ صدورُها ... وأعجازُها، عما بهِ اللهو، خُذَّل
أولئك لا يُوفينَ شيئًا وعدنهُ ... وعنهنَّ لا يصحو الغويّ المعذَّل