كان كل ذلك وما إليه مما يتصل به، كان أيضًا من ضرورة الحافز الذي يستوفزهُ ويرتفع به إلى إرادة التعبير، أن ينحو به إلى أول ما يطاوع من الأصوات ويتلين ويخف ولا يحتاج إلى المداورة والتمرين.

فإذا تدبرت ذلك وأَوعبت نظرك إليهِ وفيهِ، وتلمست كل الصلات والأسباب التي تمتد بهِ إلى سائر المعاني التي تنظر إلى هذا الأصل أو تتخايل عنهُ -عرفت أنهُ لابدَّ من اشتمال كل هذه المعاني على الدلالة الفطرية التي تدلُّ بها طبيعة الإنسان على أغراضهِ الأولية القديمة. فكُلُّ ما يرجعُ أصلُ معناه أو بعض فحواه إلى هذه الدلالة، فالواجب لذلك إذن أن يشتمل على حرفِ الحلق الأوَّل وهو "الهمزة"، أو على الحرف الثاني الذي يقاربه ويشابهه ولا يختلف عنه إلَّا بضغطهٍ هوائية رفيقة هينة في جوار الحنجرة وهو "الهاء". فإذا تصرفت قليلًا على مثل هذا الأصل ترقَّيت إلى "العينِ"، "فالحاء"، "فالغين"، "فالخاء"، مقدّمًا "الحاء" على جميع هذه الأربعة الأخيرة لخفتها وسهولتها وسلامتها واقترانها بالحشرجة الحُلوة اللطيفة الرقيقة المُنْسربة في تصويتها كأهدإ انسراب وأحنّهِ وألينهِ.

فإذا صحَّ لكَ، ما نذهبُ إليه، استخرجتَ من ذلك ضرورة أن تكون جميعُ الألفاظ العربية -التي ندعى لها هذه الحكمة الشريفة: في إمساسِ الحرف والكلمة شبهًا من معاني الفطرة ودواعيها- مبينة كل الإبانة عن هذا الرأي الذي نجرى إليهِ، باشتمالها على أحد هذه الحروف الحلقية. ويقتضي ذلك أن تكون كل أدوات الاستفهام والنداء والإشارة والتنبيه والفزع والتحذير، وسائر الألفاظ ذوات المعاني المقاربة لذلك -مشتملةً على أحد هذه الأحرف ثم يكونُ منهُ أيضًا أن جميع أسماء الأصوات الدالة على صوت الإنسان والحيوان والطير والحشرات قد جمَعتْ طرفًا صالحًا منها، حين تكون هذه الأسماء -أو الأفعال- دالةٌ على حكايةِ صوتٍ حلقي يكون لهذه الخلائق. وإذن فواجبنا -بعد الذي قلناه وعرضناهُ- أن نقدّم الدليل من ألفاظِ العربية على صحة ذلك، وأنه طريقةٌ ممهدةٌ على لسان هؤلاء الناس من العرب، وأنهُ إذا كانَ ما نقول بهِ، فاللغة العربية هي حقا -على ما ادعيناه في الكلمة السالفة- أدق اللغات، وأكثرها احتفاظًا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015