ما للطفل الصغير الوديع الجميل، وإذا الفكرة الأولى التي أدمن عليها أمٌّ فيها هيبة الأُمومة العاملة المخلصة وحنانها وروعتها ووقارها.

وهناك أسرار الفن في بيان الرافعي فمنها إدراك الجمال السامي غير المبتذل، فهو يدرك الجمال في الجميل لأنه يعرف أسرار جمالهِ، ويدرك الجمال في القبيح لأنهُ يعرف أسرار قبحهِ. فالجمال عندهُ في السر والجوهر وأصل البناء لا في العرض، وكذلك الخير والشر، والفضيلة والرذيلة وما إلى ذلك، هي كلها عند الرافعي موضوع للأسرار فهو لا يقف عليها وقفة المتشبّث بل يهزها من أصولها ليخرج أسرارها، فإذا فعل كتب صفة الشيء الحي بكلام حي فيهِ قوة المقاومة والقدرة على البقاء، وكل الأسباب التي تضمن لهُ الحياة الفنية والبيانية.

ثم لا يقف الرافعي عند ذلك بل لكل هذا مكان آخر يصل إليهِ فيصهره ويذيبهُ ثم يرده في صورة فذة، ذلك هو الإحساس القوي المشبوب. فهو يأخذ الفكرة بلغتها وعقلها وسرها من إحساسهِ هو لا من إحساس الناس، حتى إذا آمن بها إيمانًا لا مطعن فيهِ استعان بإيمانه القوي على إنشائها إنشاءً مبتدعًا خاصًّا موسومًا بسمة صاحبهِ، تلك السمة التي تسمى "أسلوب الرافعي".

كلُّ ذلك بعض العمل البيانيّ الذي يتدفق من لسان هذا الرجل. وإن لهُ خاصّة عجيبة إذا تكلم في الاجتماع العربيّ الإسلاميّ في هذا العصر ما بين خُلُق وعلم وعمل ودين، هي هذه الروعة المستعلنة المنصبَّة على معانيها كنور الشمس. وسر هذه أنهُ يحسُّ ويفكّر وينقد ويبيّنُ بقوة ثلاثة عشر قرنًا من التاريخ الإسلامي، ويحسُّ بإحساسها، ويدرك أفكارها، ويعرف أسرار فضائلها ورذائلها، وأسباب قوتها وضعفها، وقد أحاط بكثير من أصول القانون الطبيعيّ الذي يجمعُ ويفرّق ويضبط وينشر، ويزيد وينقص في هذه الأمة الرابضة في قلب الشرق.

أما الرافعيّ المحب فهو رجلٌ وحدهُ سام عن الإسفاف، مشرق كالنجم، صاف كأنهُ مرآة مجلوَّة، ثم فرحٌ كأنهُ أملٌ يتحقق، باك كأنهُ عضوٌ يُقْطع، متألم كأنهُ محارب باسلٌ ينهزم، ثم لا يزال على ذلك -الرجلَ الجلْد القويَّ الذي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015