أو ينكر أحد أن هذا الميدان لا يحدَّ بحدود سياسية أو حربية؟ ألا وإن القتال قد وقع في كل مكان حتى البيوت التي هي موضع الأمن في عرف الإنسانية، أو ينكر أحد أن العلم الحديث على جلالة قدره وعظم ما آتى من النعم لم يستطع أن يؤتى قلبًا واحدًا نعمة الراحة والاطمئنان؟
أخذت الأرض زخرفها وازَّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فلم يبق بعد الآن إلاَّ أن يعرف الإنسان أنهُ -مع قدرته على الأرض وتصريف قواها واستخراج كنوزها- غير قادر على أن يستجلب لقلبهِ ساعة من الأمن يرضى فيها عن نفسه وترضى نفسُه عنهُ. ألا وإن أهل الأرض جميعًا في هذه الحيرة لينظرون إلى الغيب نظرة اليائس الذي كان لهُ أمل ثم قطع به، ولماذا قطع بهذا الأمل؟ ذلك لأن الناس حكّموا في قلوبهم كل شهوة من شهوات المال والنساء والغلبة والفوز ولم يضبطوها بشيءٍ من ضوابط الحياة، فأصبحت الحياة كلها عدوان وتقاتل وتنابذ وشهوة. وليس للحق وحدوده بين الناس قدر تقف كل هذه الشهوات دونه، ثم ها نحن نفقد الإمام الذي يقود العالم إلى الخير والسعادة والراحة، ولا يستطاع أن يكون في كل عصر إمام يقود الناس، فكان العقل أن يكون كل امرئ على نفسه إمامًا يهديها إلى الخيرات، وليس يوجد هذا في امرئٍ إلا أن يكون عنده كتاب يهديهِ، يستجيب لأمره، ويقف مع نواهيه، ويمشي مع أوامره، ويكون هذا الكتاب هو الحق المبين الذي ميّز للإنسانية خيرها وشرها وصرَّفها على قدر من الحكمة والصواب يؤول بها إلى المحبة والرضا والحرية والسعادة والاطمئنان.
وهنا يختلف الناس بين الكتاب الوضعى الذي لا يعرف أول الرأي فيه من آخره، وذلك هو كتاب العقول الإنسانية بفلسفتها وحكمتها وضعفها واختلافها، وبين الكتاب الذي يقول عنه من يؤمن به أنه وَحْى من رب العالمين يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. وليس يقع هذا الخلاف إلا من غموض أمر هذا الوحي إلى بشر من الناس تلقى إليه من ربه كلمات يبلغها للناس حتى يكونوا مؤمنين. ولا يفضُّ هذا الخلاف بين الناس إلَّا أن يستقرَّ في القلوب صدق الوحي وصدق وقوعه لمن اختير من بين البشر ليكون نبيًّا أو رسولًا يهدى