والسماحة، وأسوأ ما يعترى هذا العقل من الأدواءِ التي تزيد في شقاء الإنسان، هذا التعقيد الذي يسمونهُ فلسفةً تدليسًا على العقل نفسه. والحقيقة التي يجب على كل إنسان أن يعتقدها في نفسه وقلبه أن التفكير البسيط الواضح الهادئ الجرئ المتثبّت هو أعلى درجات الفلسفة وأشرف منازل الحكمة. وكانت حكمة الأولين وفلسفتهم تعتمد في مجموعها على هذه البساطة، وذلك لصفاء القلوب وتفرُّغها لطب الحقيقة من ناحية، ثم قلة العلوم وانضمامها من ناحية أخرى. فلما اتسع العالم في الحضارة ونهض العلم واستبحر حتى وصل إلى الحالة التي نراها اليوم، اتسعت الشهوات وغلبت على القلوب وشغلتها عن طلب الحقيقة والتفرُّغ لها والتوت بها في مسالك الضلال والغيّ، وصعب على عامة الناس الإحاطة بالعلوم كلها. ثم لما ظهرت أشباه المعجزات في العلم الحديث استكبر الإنسان وأخطأ الرأي في نسبة هذه العجائب إلى قدرة العقل وحده دون توفيق الله ومشيئته، فزاغ كثير من الناس وضلوا واستفتحوا أبوابًا عن الزندقة والجحود والشبهات قلَّ أن يجدى في أغلاقها جدال أو خصومة.
وإذا نظرت إلى الأرض وجدت الاضطراب والتقلقل والحيرة مقرونة بالتهتك والفجور والبغي ووجدت سيلًا من الفتن يزأر ويخور في كل مكان، ووجدت الناس من ههنا وههنا يجرون ويدبّون ويتلفّتون كأن ليس منهم إلَّا لصٌّ أو مسلوب أو مجنون. ونعوذ بالله، فإنَّ هذا بلاءٌ عظيم لا يدرى معهُ كيف المخرج ولا أين المفرُّ. ألا وإن الأيدي موضوعة على مفاتيح العلوم، وكلما أدير مفتاح في بابهِ ثم فتح الباب وبدت العجائب لعيون الناس جدَّدت هذه العجائب فينا رغبات وشهوات تمنع القلوب من الاطمئنان والاستقرار. وكيف يطمئنُّ امرؤٌ لا يزال قلبهُ معلقًا في مدرجة الرياح الهوج ولا يزال تتناوحهُ تلك الرياح بالقوة الطاغية التي تعصف بالعالم فما تفتأ تدوى القنابل والرصاص والرعود والبروق في كل زاوية من هذه الأرض التي يقولون عنها متمدنة حرة. إن العالم ليغلي بشروره وحسناتِه على كثرة الشرور وقلة الحسنات، أفينكر هذا حيٌّ على ظهر الأرض في أيامنا هذه؟ أينكر أحد أننا على حافة ميدان قد حشدت له الأمم والعقول من كل مكان؟