فهب فريق من هنا يقاتل فريقًا من أهله هناك، ووقفت بريطانيا بينهما تنظر وتضحك وتسخر، وتحرك هذه الدمى إلى أن تنقطع الحبال فتهوى في الهوة السحيقة الملعونة، هوَّة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات. لقد عرفوا ذلك فأبوا أن يكونوا طعامًا لمستعمر جبّار يريد أن يتلعَّب بهم، فاختاروا ما هو أهدى لأممهم وأبقى في وحدتها، وأشد لقوتها، وأنأى بها عن العداوات بين بعض الشعب وبعض. لقد عرفوا أن قيادة الثُّوار، تقضى عليهم أن ينظروا إلى خير هؤلاء الثُّوّار قبل أن ينظروا إلى خير أنفسهم، وعرفوا أن الذي هم مقدمون عليه هو الجهاد الذي لا ينتهي حتى ينتهي هذا الاستعمار البغيض، وأن الأمم المجاهدة في سبيل حقها ينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها، وأنه ينبغي أن ينشأ الجيل من شباب الأمة بعد الجيل، وهو يرى أمامه مجاهدين لا يفترون ولا يضعون السلاح، فذلك أحرى أن يملأ قلب الجيل حميّة وأنفة ورغبة في بلوغ الكمال في العلم والمال والسلاح، حتى يجاهدوا كما جاهد آباؤهم وإخوانهم من قبل. وعرفوا أن المهادنة في مثل هذا إنما هي مهادنة تورث الشعب ضعفًا، وتمكن للدساسين والخبثاء أن يتخافتوا بينهم في الدعوة إلى ما يفت القوي ويضعضع العزائم، فلا يلبث أن ينفض عن المجاهدين من تخاذل وآثر الراحة على لأواء الجهاد. وعرفوا أيضا أن الشعب الثائر غير الشعب الذي يتبحبح في مسارح السلم، فأولهما ينبغي أن يظل ثائرًا لا يعرف اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بالأخرى. وفيم يلين أو يسلم أو يأخذ بيد ويعطى بأخرى؟ أفي الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية؟ أنبئوني أي شيء من هذه الثلاثة يتجزَّأ حتى يقبل اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بأخرى، وهو جوهر المفاوضات والمعاهدات والمحادثات.

لقد عرف هؤلاء النفر الذين رضي الله عنهم ورضيت عنهم أممهم، أن الذي بينهم وبين فرنسا هو الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، فعلى فرنسا أن تسلم وأن تلين وأن تعطي بيد ولا تأخذ شيئًا، لأنها لن تأخذ إذا أخذت إلا ذلك الذي أعطت. وهذا بداهة العقل، وبداهة النفس الطيبة، وبداهة الفطرة الإنسانية التي لا تنخدع بزيف الكلام ومزوَّقه. إما الحرية والاستقلال، وإما الصراع في سبيل الحرية والاستقلال، ولا مفاوضة على شيء ينبغي أن يتم جميعًا أو لا يتم البتة على

طور بواسطة نورين ميديا © 2015