وإلى التهديد الملثم بأن بريطانيا مضطرة إلى تحطيم هذا التعاون إذا أصرت مصر على إنفاذ قانون الشركات الذي أصدرته منذ عهد قريب، ثم لم ينس السير ستافورد كريبس الوزير البريطاني عادة قومه في المن الخبيث البغيض المتلفع بالعواطف الإنسانية النبيلة، فزعم أن عطف بريطانيا على مصر في محنة الكوليرا كان مبعثه العطف الإنساني البالغ والرثاء العميق، لا الدافع السياسي أو الحافز التجاري. وفي الخطبة كثير من أمثال هذه التلفيقات العجيبة.
زعم السير ستافورد أن الروابط الثقافية والتجارية كفيلة بحل ما سماه "خلافًا" سياسيًّا، وهو يرمي بهذا إلى تحقير هذا "الخلاف السياسي" الطارئ، لأن تاريخ العلاقات البريطانية المصرية فيما يدعى حافل بعلاقات المودة وبالذكريات الجميلة! ! فهل سمعت أذن بأغرب من هذه الدعوى؟ إن أجمل الذكريات بيننا وبين بريطانيا هو احتلالها أرض مصر والسودان أكثر من خمس وستين سنة، وسعيها الحثيث في فصم عُرَى مصر والسودان فصما لا مجاملة فيه ولا هوادة. إن هذا الخطيب السياسي يعلم أنه يلقى خطبته في دار السفارة المصرية التي دعت لتكريم أعضاء الغرفة التجارية المصرية الإنجليزية، ولكنه يتجاهل هذا ويستهين بالمنزلة السياسية التي ينبغي أن تكفل لدار السفارة المصرية، فيقف ليحط من قدر النزاع السياسي بين مصر والسودان وبريطانيا، ويسميه "خلافًا يسيرًا"، كأن حرية شعب واستقلال أمة ليس شيئًا يقام له وزن بإزاء ما يسميه العلاقات التجارية والروابط الثقافية؟ ونحن نعجب لِمَ سكت رجَال السفارة عن رد هذا التحقير للهدف الأعظم الذي أراقت مصر والسودان في سبيله ما أراقت من دماء، وجادت في سبيله بالأموال والأرواح والأبناء، وصبرت في الجهاد من أجله على مُرّ الحياة وبَأْسائها صبرًا طويلا كله آلام وتباريح؟
إن كل حرف في خطبة السير ستافورد كان كأنه يقهقه ساخرًا من هذا الشعب الذي يريد أن يعيش حرًّا في بلاده، فكيف فات من سمع هذه الخطبة من المصريين أن يقف ليعلم السير ستافورد أن النزاع السياسي بيننا وبين بريطانيا هو الحياة وهو الحرية، وهو الهدف الذي لن تلفتنا عنه مودة نشأت من رابطة ثقافية أو علاقة تجارية؟