زمن ذلك كله قد أتى وأظل، فإني أسمع نشيش الحياة وهي تتخلق في مرجل الوجود وقد أحاطت به النيران المجنونة المتضرمة من كل مكان. ولكن لابد لتحقيق ذلك كله من عمل يتولّاه رجال من هذه الأمة، فينفخون في الضرم حتى تستعر النار الخالدة لتنفي عن هذا الجيل كل خَبث ألمَّ به من أدران الحضارة التي يعيش فيها عالمنا اليوم. غير أني أخشى أن يكون الإهمال والعجلة وقلة المبالاة وأخذ الأمور بالإستخفاف، مما يفضى إلى فوات الفرصة التي أمكنت، ويقضي على هذا الأمل الذي يضئ لنا من بعيد ينادينا إلى ما فيه خيرنا وخير هذا الناس.

ويخيل إليّ أننا نعيش اليوم في عصر بلبلة واختلاط، وهذا شيء قد أصاب أممًا كثيرة من قبلنا، فلم يعقها ذلك عن إدراك الغايات التي حرصت على السعي إليها وعلى بلوغها. بَيْدَ أنه لابد لأمة أرادت أن تخلص من هذه البلبلة أن يتجرد من رجالها ونسائها فئة لا ترهب في الحق سطوة ولا بطشًا ولا اضطهادًا ولا تدخر دون مطلبها جهدًا ولا عزيمة، ولا يثنيها إخفاق، ولا تلفتها فتنة، ولا يصرفها الفرح بقليل تناله عن الكدح في سبيل ما ينبغي أن تناله.

وقد أراد الله لمصر أن تكون في هذا العصر قدوة العرب ومجتمع أمرهم وكعبة قصادهم، وهذه البلبلة في مصر أشد ظهورًا وغلبة منها في غيرها من بلاد العرب، فأخوف ما نخافه أن تظل مصر غافلة عن شر هذه البلبلة فتعدى سائر العرب بالأسوة والقدوة، فينتشر الأمر انتشارًا يعجز المخلصين أن يلموه. فبين ظهرانينا اليوم ألوف من الطلاب العرب قد جاءوا من كل قطر لينهلوا من علم مصر، ويعودوا إلى بلادهم ليجاهدوا في سبيلها، فإذا أعدتهم هذه البلبلة فسوف يحملونها معهم إلى بلادهم فيفرقوا المجتمع من كلمة أممهم، ويرتكس الأمر حتى يصبح ولا علاج له. هذا، وأنت لا تعدم صدى البلبلة في الصحف والكتب والمجلات المصرية التي أخذت تزداد انتشارًا واتساعًا، فكيف لا يخشى أن يعم هذا البلاء كل بلاد العرب ويتغلغل في نواحيها؟ ويومئذ نصبح طعمة للأمم الضارية التي تحيط بنا من كل مكان، وتحد لنا أنيابًا عصلا تنهشنا بها يوم يتاح لها أن تنقض على هذه الفريسة التي لا تدفع عن نفسها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015