ومنذ سمعتُ الشيخ ينشد تلك الأبيات، وقفتُ على كلمة في هذا الشعر لا أزال أعجب لها وهي: "أبكارُ الهموم وعُونُها" "أبكار الهموم"! يا لها من كلمة عبقرية! إن مزيَّة هؤلاء الأعراب البُدَاة على سائر من نطق بالعربية هي هذه الجرأة العجيبة التي تنقضُّ على اللغة فتنفضُها نفضًا وتختار من ألفاظها كلمة تضعها حيث تشاء، فلا تراها تقلق في مكانها أو تضطرب، وهم بذلك يختصرون المعاني كلها في كلمة واحدة يخبأون فيها أحلامهم وخيالهم وأحاسيسهم وأسرار قلوبهم، كما خبأ هذا الأعرابي كل ما كان في نفسه في "أبكار"، ودلَّ بها على المعاني التي كانت تضطرم في قلبه حتى أضنته ومسحت وجهه بالشحوب، وعرقت لحمه بالهزال، وصيَّرته إنسانًا مُنكرًا في عين من يُحب.

فهذا الأعرابي الجرئ، والمحب المزدَرَى، والساخر المستخفُّ عندئذ بالناس وبالنساء وبالحياة، قد أراد أن يُعْلِم "أميمته" الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمرًا غضًّا ناضرًا ناعمًا لم تؤرِّقه هموم النفس ولم يُضرَّ به الكدح في بوادي الأحلام والآلام والآمال، فإنه غنيٌّ عنها، وعن سائر نساء العالمين -وأن أمثالها لسنَ له بهمٍّ، وأن له من حاجات نفسه وهمومها "أبكارًا" كأبكار النساء و"عونا" كعونها، فهو راض بها وبما يلقى في سبيلها من أرقٍ وسُهادٍ. وأراد أن يُعلمها أنه لا يأسى على ما فاته من بِكْرٍ ولا عوانٍ، فإن للنفس الشاعرة همومًا "أبكارًا" لم تمسسها يدٌ ولا فكرٌ ولا حُلُم، تجد النفس المحبة فيها ما يجد المحبّ في العذراء الحييَّة العصيَّة من فتنة وجمال ونضرة وشباب، ولا يزال يداورها ويحاورها ويشقى بالسعي في طِلابها شقاء لذيذًا له في القلب نشوة أو سُعار، وهي "أبكار" لا تزال عذراء على وجه الدهر لا تغيّر منها الأيام شيئًا، ولا تُنيل الطالبَ المحبَّ إلا متاع الحبّ المجرد من شهوات الأبدان، بل هي تغتذى بالأبدان فتضنيها وتنهكها لتبقى هي أبدًا أبكارًا.

وللنفس أيضًا هموم "عُون" قد أصاب الناسُ منها ما أصابوا، ولكن بقيت منها للنفوس الشاعرة بقية فاتنة بما فيها من دلال وكبرياء وقدرة على الامتناع عند

طور بواسطة نورين ميديا © 2015