وفي الناس ناسٌ، وقليلٌ ما هم، قد أجادوا "لغة الصوت" إجادة بارعة، وإن كانوا في أكثر الأحيان لا يدركون أنهم يحسنون منها شيئًا، وذلك لطول ما انطوَوْا على أنفسهم حتى غمروها في بحر النسيان. وربما سمعتَ أحدهم وهو يتكلم، فما يكاد ينطق حرفًا أو حرفين حتى تحسَّ كأن كل معاني نفسه تنسرب في نفسك واضحة بيَّنَة، وأنك قد عرفت منه ما يكاد يخفيه عن الناس جميعًا؛ لأنه متكبر أو قانط أو هيَّاب جزوع، وهذا الضرب من الناس هم أشد خلق الله حرصًا على إخفاء آلامهم، وأبعدهم رغبة في الاستمتاع بالعذاب الذي يقاسونه، لأنهم يظنون أنهم بذلك قد حازوا النصر على آلامهم، وعلى الناس أيضًا؛ إذ استطاعوا أن يواروا عنه خبءَ ما في نفوسهم الحزينة المعذبة.

* * *

لما سمعت الشيخ -رحمه الله- ينشد تلك الأبيات، تمثَّلت لعيني تلك المأساة الخالدة بين الرجل الصادق والمرأة التي أحبَّها، وكانت تطمع أن يكون لها كما خيّلَت لها أوهامها، وأن يأتيها بتحقيق أحلامها -أي أحلام حواء منذ كانت حواءُ على اختلاف العصور وتباين الحضارات. فهذا أعرابيٌّ محب لصاحبته "أميمة" التي ذكرها في شعره، فدارت به الأيام في فيافي الحياة ملتمسًا ما يحقق به أماني هذه المرأة المحبوبة، ثم عاد إليها وقد أذابت البيد منه ما أذابت بظمئها وشمسها وجوعها ومخاوفها. فلما رأته شاحِبًا مهزولا رثًّا أسوأ حالا مما عهدته، أنكرته وقد أثبتته معرفة. فجنَّ جنونها لأنها محبةٌ قد أخطأت في الرجل الذي تحسب كل ما كانت تؤمله، وخانها ما كانت تتمثله في أحلامها من صحة وشباب وأناقة وجمال. وما أسرع ما تتنكر المرأة إذا خاب ظنها وتبددت أحلامها، وفاجأتها الحقيقة العارية كالشيء الذي يخالف ما كانت تتوهم!

كانت المفاجأة صارخة في نفس أميمة، فلم تلبث أن غلبتها تلك الطبيعة المتقلبة الغدَّارة التي طال عهد المرأة بها، فأظهرت كأنها لا تعرفه ولم تلقَه ساعة عن دهر. وجرى على لسانها ذلك الحديث الذي يرويه لنا المحبّ، فقالت: مِن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015