وكيف يفعل هذا البائس حين يعلمُ أنه قد دنا أجلُ عقل عبقريّ لم يتمّ عمله لخير هذه الحياةِ الإنسانية، فهو مأمور أن يطفئ نوره ليخلُفَه عقل دَجُوجيّ لا يأتي إلا بالسواد والإظلام؟ أتُرى أنامله ترتجف من الإشفاق والضن والبُقْيا على هذا السراج الذي أُمر أن يقطع عنه أسباب الحياة؟ أم تُراه يفعل ذلك وهو مسلوب العقل والإرادة والإحساس كأنه قائد من رجال الحرب الحديثة، لا عقل له إلا الحرب، ولا إرادة له إلا الحرب، ولا إحساس له إلا الحرب، فهو كله حرب على الجنس البشري شِيبه وولدانه ورجاله ونسائه، لا يرحم صغيرا، ولا يوقِّر كبيرًا، ولا يشفق على أم ولا ذات جنين! أم تراه يعلمُ ما لا نعلمُ من خَبْءِ هذه الحياة الدنيا، وأن جليلها الذي نجلُّه ونوقره هو أولى الشيئين بالمهانة والتحقير، وأن الحقير الذي نزْدريه كان أولاهما بالتجلَّة والتوقير؟ فهو إذن يؤدي عمله راضيًا عن نفسه وعما يعمل، لا تزعجه الرحمة لما لا يستحق رحمة، ولا يُمسك يده الإشفاق عما لا يستأهل إلا الإرهاق والتعذيب. وكأننا نحن إنما نحبُّ ونبغض ونرضى ونكره على قدر إدراكنا وما بلغ، لا على منطق الحياة المتطاولة الآماد والآباد، فنرى الأشياء متصلة بمصالحنا ومنافعنا، ومحصورة في حاجات أنفسنا وآمال قلوبنا، لا متماسكة ممتدَّة في كهوف الأمس السحيق، وسراديب الغد العميق.

فلو أن هذا المَلك كان ميسَّرًا لإدراك الحياة ومعانيها بمثل العقل الذي ندركها نحن به، وكان كمثلنا في تقدير الأقدار على قياس الحاجات والآمال الراهنة محجوبًا عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لرأيناه يحرص أحيانًا على أن يُبقى على بعضنا ويعجل أحيانا في القضاء على بعض آخر نظنُّ ويظنُّ معنا أنه لا معنى لبقائه في هذه الدنيا ليكونِ زِحامًا من الزِّحَامِ لا عمل له إلا أن يَعُوق المتقدم، ويعثرُ به الماشي، ويتفلَّل من جرائه حدُّ الماضي المتعجل، ولكان الناس يومئذ يأتون إلى الدنيا ليجدوها ممهَّدة من نواحيها لا يلقى لاحِقٌ عَنتًا من وجودِ سابق؛ ولا يصادف إلا طريقًا خاليًا لا يضطره إلى جهاد ولا حيلة ولا حذر، ولا يحمله على النظر والتأمل والهمة إصلاح الفاسد والفكر في أسباب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015