استقر، وأطاف بنفسي جو من السكون والرهبة والجلال، وأخذت أستغرق في تأمل هذه الحياة المتكررة المتطاولة الدائبة منذ عهد أبينا الشيخ آدم -رحمه الله- إلى يوم الناس هذا. فآنست فترة (?) تأخذني، ثم نعسة تتغشَّاني، وسبحت في غمرة طويلة لذيذة لا عهد لي بمثلها منذ عَقَلْتُ.

وإذا أنا أفضي من غمرتي إلى ميدان فسيح أخضر الجوانب متراحب الأرجاء، وإذا مسجد بعيد يستقبلني كأحسن ما رأيت من مسجد بناءً وبهاءً، قد تباعدت أركانه وتسامت في جو السماء مآذنه، ويبرق بابه ويتلألأ شعاع الشمس عليه. فقصدت قصده، ولم أكد أدنو حتى رأيت جموعًا غفيرة من الخلق يستقبلون الباب خارجين، في ثياب بيض وعمائم بيض كأنها غَمامٌ تزجّيه الرياح (?). فوقفت وسألت أول من لقيت: ما الذي جمع الناس؟ قال: إنه الشيخ أيها الفتى. قلت: فمن الشيخ يرحمك الله؟ قال: غريب والله، إنه الشيخ أبو جعفر الطبري إمام أهل السنة، وشيخ المفسرين، وعمدة المحدِّثين، وثقة المؤرخين، ردّ الله غربتك يا فتى. قلت له: جزاك الله خيرًا ورضي عنك وأرضاك، أتراني أدركه الساعة؟ قال: هو رهين هذا المسجد لا يبرحه، فادخل تلقه.

ولم أزل أحتال للدخول وأمواج الناس تتقاذفني عن الباب حتى كدت أيأس من لقاء الشيخ، وظننت أني لو بقيت دهرًا لم تنقطع هذه الأمواج المتدفقة من باب المسجد. وظللت أزاحم حتى بلغ مني الجهد، وانتهيت إلى صحن المسجد وقد انفضّ جمع الناس، ولم يبق فيه غيري. وجعلت أسير أتلفت وأنظر في مقصورة بعد مقصورة، حتى رأيت بصيصًا من ضوء في مقصورة بعيدة، فلما وافيتها، وكانت الشمس قد آذنت بغروب، رأيت مسرجة معلقة وحجرة واسعة، وآلافًا مؤلفة من الكتب قد غطت الجدران. فاستأذنت ثم سلمت فلم أسمع مجيبًا، فدخلت، وإذا في جانب منها شيخ ضافي اللحية أبيضها جميل الوجه، قد اتكأ وأخذته سنة من نوم، وقد مالت عمامته عن جبين يلمع كأنه سُنَّة مصقولة من ذهب، وبين يديه كتب وأوراق مبعثرة أو مركومة ومحابر وأقلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015