لست أدري! ولكني أريد أن أحدثك، أريد أن أنبذ إليك من القول لتشركني في بعض الفكر. . .

ثم سكت وسكن، ولكنه أقبل على وقد جمع أطراف نفسه المبعثرة، يقول: . . . كانا صغيرين، وكانت أيامهما الصغيرة لا تدرك معنى النظرات التي تلتقي فتتعانق، فتتعقد عقدة لا تحل. وهكذا نسيهما الزمن في معبده الآمن، ثم انتبه يومًا فزفر بينهما زفرة واحدة فتفرقا. لم يدركا يومئذ شيئًا من معاني الفراق المهلكة التي تمحق النفس بالتأمل واللهفة والحنين، بل نظرا ثم توادعا، ثم افترقا ثم نسيا. أو هكذا كان، ولكنه لم يكن في الحقيقة نسيانًا، بل كان عملًا من أعمال القدر الغامضة، كان تعبئة للأحداث العظيمة التي تتهيأ فتصنع النفس الإنسانية صنعة جديدة، لقد عرفت ذلك فيما بعد. وتسحَّبت حواشي الحياة بينهما، حتى رقت أيامهما الأولى ثم جعلت ترق حتى استحارت أحلامًا من الذكرى المبهمة ترف على القلب رفيف النسمات: لا تُرى بل تُحَس، ولا تمسك ولكنها تلقى عطرها في القلب وتمضي. نعم لقد نامت تلك العواطف الناضرة الصغيرة في مهد من النسيان، ولكنها كانت تنمو أيضًا في جو هذا المهد.

ومشى الزمن بينهما يقيم سدودًا وأسوارًا من السنين وأحداثها، وكما كبرا وامتدّا من أيام العمر، كبرت السماء التي تظلهما وترامت آفاقها، واستحالت الأيام الصغيرة الأولى أشباحًا ضامرة لا تكاد تبين من دقتها وخفائها.

ثم فجأهما القدر فتلاقيا بعد دهر طويل كما يتلاقى نجمان في ظلمة الليل، يتناظران لمحةً وشعاعًا من بعيد لبعيد. هكذا عرفتُ. لقد كان هو يحسُّ في بعض أيامه قبل ذلك اللقاء، أن الفلك قد دار دورته في القدَر، وأن القوة المسخِّرة قد قذفت به في نظام من الجذب جديد، فلم يكد حتى لمح له شعاعها من بعيد يليح إليه بأضوائه وكأنما يقول: أقبل. . . هلم إليَّ. . . هأنذا، هأنذا!

ولم يلبث أن أتم هذا الفلك دورته، فإذا هما يتناسمان في جوٍّ عطرٍ تنفح من أردانه أنفاس الأيام الصغيرة الأولى. . . أيام الطفولة التي تنمو فيها عواطف القلب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015