وصديقي "بشر" قارورة عطر نشوان من نفحات روحه، قارورةٌ عربيةٌ معربدةٌ تختال بطيبها تيَّاهةً من الخفة والطرب. وأنا أرفق به ولكنه يأبى -كرمًا منه- ألا أن يتحطم في يدي ليسكب طيبَه عليها فيعبَقُ بها، ويبقى أبدًا يتضوع منها نسيما يسكر، ويَعْلَق بهذا القلم من عِطْره أثرٌ خالد كرائحة الحبيبة في ذكرى المحب، و"للرسالة" بعد ذلك من شذاه ما يفور وما يتوهج وما يسطع من نضخ عبيره.
وبشر -هذا الإنسان الرقيق- يتجهم لي ويملأ عليّ "بريد الرسالة" زلزلة ورعدًا وبرقًا وصواعق. . . ويبصرني بفروق اللغة بين "وَضَع بحرًا" و"اخترعه"! ! وأنا بلا شك لا أستطيع أن أشغل نفسي بتبصيره بمنطق اللسان العربي. ثم لا يكتفي بهذا بل هو يغلو في تقديري فيعدني من "الخَلْق" الذي يقف على معاني الألفاظ العربية من "الإكباب على قراءة الصحف اليومية"! ! كلا، بل يجوز ذلك فيعلِّمني مجاز العربية وحقائق بيانها ودقائق ألفاظها! ! أوَّه، بل هو يعرِّفني بالقرآن لأني "من عامة الناس في هذا الزمان" ممن يفهمون القرآن -كلام الله- بما يغلب عليهم من عامية العصر! ! ولا يكون كل ما يكتبه "بشر" من علمه هذا "إلا على جهة التسلي والتلهي"! بلى، فهو يرحمني ويشفق على أن يدخل بي في المقاييس العربية الدقيقة الغامضة التي تستهلك قوةَ العقل والإدراك، فهو يأخذني من قريب! ! وأنا قد أخطأتُ وأسأتُ وأثمتُ وحَبِط عملى، ومَحَقني اندفاعي إلى شعر بشر "أتلمس" -هكذا قال بشر- أتلمس له الخطأ! !
ولا كلّ هذا أيها العزيز، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}، وأنا يا بشر لا أطاولك في علم ولا فقه ولا بيان ولا معرفة، فأنت أنت، وأنا حيث أنا من العجز والبلادة، ورحم الله امرءًا عرف قَدْر نفسه.
ومن جَهِلتْ نَفْسُه قدرَهُ ... رَأَى غيرُه منْه ما لا يَرَى
وأنا يا صديقي أقل شأنًا وأضعف من أن أجرى في عنانك، ولكنك -إذ كتبت ورددت وأعطيتني فوق ما أستحق في نفسي- تحملني على المركب