فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، فحدد بذلك مكانهم في معترك ثقافات العالم التي عاصرته أو سبقته، ثم وصف عملهم في تصفية الثقافات كلها بقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.

وكانت هذه الأمة العربية الجاهلية أمة ذات ثقافة منحدرة من عهد أبيهم إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام-، وما كان إبراهيم ولا ولده إسماعيل يهوديًا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، أي أن الحنيفية التي طبقها أبناء إبراهيم وإسماعيل قرونا طوالا وتداولها التغيير والتبدل حتى انتهت الى العصر الجاهلي الذي أظله الإسلام، كانت قد صارت تراثا ثقافيا لهذا المجتمع الجاهلي يعبر عنه أسلوب حياته عند نزول القرآن. فجاء الله بالإسلام لينفي من هذا التراث الحنيفي كل ما دخله من الفساد والتغير على تطاول القرون، وليتم مكارم أخلاق هذا المجتمع الجاهلي الوارث للثقافة الحنيفية، وليحمل هذا الجيل الذي اصطفاه من جيل الجاهلية أمانة حمل هذا الكتاب بقوة، وأمانة حمل السنة باقتدار وفهم، وأمانة تطبيقه في مجتمع جديد، وأمانة تبليغه ذلك كله لأبنائهم ولسائر من يدين به من البشر من غيرهم، ليحملوه أيضا ويبلغوه ويطبقوه في مجتمع متجدد تتسع رقعته، وتتجدد حاجاته زمانا بعد زمان.

وهذا الدين قد انفرد بخصائص لم تكن قط في ملة سبقته، باشتماله على تفاصيل كل ما يحتاج إليه الجنس البشري في كل عصر وزمان، لم يقتصر على العقائد والعبادات وحدها، بل اشتمل على كل صغيرة وكبيرة في حياة الفرد الخاصة، وعلى آدابه في معاشرة الأهل والولد والعشرة والزوج والصديق والقريب والبعيد، وفي جميع معاملاته الخاصة والعامة واشتملت على أصول ما يحتاج إليه في تشريعه واقتصاده وسياسته وعلمه وفلسفته، وحروبه وجهاده، وعلى أصول حياة الجماعة وعلى روابط هذه الجماعة بسائر الجماعات التي تجاورها أو تهادنها أو تحاربها، لكل شيء من ذلك هدى هو نص في الكتاب والسنة، وهدى هو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015