عين (?)، فأنا أنكر أن يكون في الدنيا شئٌ يسمى منهاجًا للبحث والفكر أو أسلوبًا أو طريقة إلا وهو منبثق من سرّ النفس الإنسانية، من تصوُّراتها ومآلفها، من عِشرتها وعهدها بما يحيط بها، من أسباب تصرُّفها في خواطرها، من دوافع نقدها للأشياء وتقديرها، من استحسانها واستقباحها، من دَواعى حبها وبغضها، من كلّ ما تعيش به في دخيلتها، وتعاشر به ما يتصل بها، بل إن العقل المجرّد نفسه، لا يستطيع أن يدرك الحق وحده، ولا أن يستقلّ بمعرفته وبالبيان عنه ولا أن ينفرد بشيء يسمى تفكيرًا، متخليًا عن جاراته من الطائع والغرائز والسلائق ومن العادات والآداب، ومما تسخطه النفس أو تحمدُه، ومما تحبه أو تكرهه، بل إن أكثر علم الناس في هذه الدنيا لا ينشق لهم طريقه إلا بما استقرَّ فيهم من أخلاقٍ وآدابٍ وسننٍ متبعة، بل إن اختلاف الأخلاق والآداب والسنن، أصلٌ أصيل في اختلاف العلم، ومفهوم العلم، وطبيعة العلم، بل إنّ الحضارات المتباينة، بعلمها وفنونها وصناعتها وآدابها، لم تتباين كل هذا التباين، إلا من جراءِ تباين الآداب والأخلاق والسنن في كل حضارة. فإذا أنا حرصتُ على أنْ أجعل أخلاقَ الإسلام وآدابه وَسننه هي الأصلُ الذي لا ينفك منه مؤرخ الإسلام، فذلك لأن المنهاجَ الذي يتبعه الباحث، لا يمكن إلا أن يكونَ صَدى لما تقوم به حياته التي يعانيها في دخيلة نفسه بالليل والنهار، وفي السرّ والعلن، وفي المنشطِ والمكره، وفي الرضا والغضب.

والتاريخ، في زماننا، ليس علمًا على الحقيقة، كما ترى في الكيمياء والحساب والهندسة، بل هو تفسيرٌ لحوادث خفية الأسباب، مطمورة الجذور، متعدّدَةِ الدوافع، كثيرة المحامل والوجوه، متعلقة كل التعلق بحياة كل فرد عاش في الفترة التي تريدُ أن تؤرخها، شديدةِ الخضوع لعوامل لا يحصيها إلا الله وحده سبحانه. فما كان هذا شأنه وتعقيده، واختلاف أسبابه، وخفاء علله ودوافعه، فإنّ منهاجَ دراسته لا يقوم أبدًا على مقاييس لا تختلُّ كمقاييس الرياضة أو التجربة؛

طور بواسطة نورين ميديا © 2015