ومن الحق على من وسوسَ في قلبه هذا الحكم الشامل: أن الإسلام لم يطبَّق إلا مدّةَ رسول الله، ومدةَ أبي بكر وعمر، أن يسأل نفسه: بم يصحُّ مثل هذا الحكم؟

إنّ بديهة العَقْل تجيبه بأنه لا يسوغُ لهُ أن يحكم على عصور كاملة بحكم شامِلٍ، إلا بدلائل بينة المعاني صحيحة الأصول؛ وشرطُ هذه الدلائل أن تكون مستقصية لأهل الإسلام جميعًا في كل أرضٍ، وأن تكون شاملةً أيضًا لكل ما يكون به إسلام الناسِ إسلامًا، وأن يكون ما يدّعى المدَّعى أنه قد أبْطِلَ أمرًا من أمور الإسلامِ التي لم يختلف عليها المجتهدون من العلماء والفقهاء، وأن يكون هذا الإبطالُ جاريًا مجرى الشريعة، ومأمورة به كلُّ جماعة يشملها الإسلام. فإذا فقد الحكم هذا الشرطَ، فإنما هو تحكُّمٌ محضٌ وبهتانٌ خالصٌ. ولست أظنُّ في العالم كله إنسانًا يوصف بالمعرفة يستطيع أن يؤيّد هذا الحكم، بمثل هذه الدلائل، على مثل هذا الشرط، مهما أوتى من العلم، ومن التتبُّع، ومن سوء النية، ومن براعة التخلُّص، ومن تمام القدرة على إظهار الباطِلِ في ثيابٍ مزوَّرة من الحق.

وإلا فإن هذا الحكم الشامل، مظلمةٌ جائرة مُبِيرة لأهل العصور الأولى من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة، وقادحٌ بليغٌ في دينهم وأمانتهم، وجائحة طاغيةٌ تزيل كل ثقة بهم وبتاريخهم وأعمالهم، وناقضٌ مُدَمّر ينقضُ كل ما يشهدُ به التاريخ الذي كنا نحنُ آخرَ خلف له في هذا العَصْر.

كلا، بل أتجاوز ولا أطالب من يقضى بهذا القضاء، أن يأتي بكل هذا الشمول بل أقتصر فأدعوه إلى أن يأتي بقضية مفردة عن الإسلام، تجتمع لها هذه الشروط، مصححة صادقة خالية من التوهم والغلو. وأنا على يقين من أن أحدًا لا يطيق أن يفعل، وأن الأمر أكبر من أن يحيط به بيان مبين وعلم عالم. وإنما يؤتى الغارز فكره في هذه الضلالة المتحكمة باتخاذه الحادثة الواحدة المجردة من الاستقصاء والشمول، ومن الاختلاف في أمرها، ومن شمول العمل بها وإنفاذها في جماعات المسلمين - أساسًا لاستقصاء مكذوب وشمول متوهّم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015