كهذا الحكم "إن الإسلام لم يطبق إلا مدة رسول الله وأبى بكر وعمر" صار حكما شاملا بطبيعته، فإذا ألقى إلى سامع، لم يجد عندئذ مناصا في العقل ولا في اللغة ولا في البيان، من تعميم الحكم في كل ما يتناوله لفظ "الإسلام". فإذا استمعه سامع كأهل زماننا الذين وصفنا قبل، كان هذا الحكم ظلا كثيفا قاتما كئيبا يلقى على العصور الأولى كلها من قتامه وكآبته، يدفع إلى الاستخفاف والتحقير والغلو في التهزؤ بأهل هذه العصور، والشك في أمورهم، ويعميه عن معرفة الحقائق، ويصرفه إلى البحث عن المثالب يتسرع إليها ويتقممها من كل كتاب ومن كل خبر، والناس أسرع شيء إلى سوء الظن، فإذا كان سوء الظن والثلب والتحقير مما يعينهم على نسبة القدرة والصلاح والعلم والفقه إلى أنفسهم فهم عندئذ أسرع إليه من السيل إلى الحَدُور (?). وإذا كانت نسبة الصلاح والعلم إلى أنفسهم مدعاة إلى صرف أنظار الناس إليهم بالتسليم والتبجيل والإعجاب، فسوء الظن والثلب والتحقير، أسرع في عقولهم وألسنتهم من النار المتضرمة في الهشيم اليابس. وماذا بعد هذه البلوى، إلا أن يصبح تاريخ الأمة المسلمة منذ اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة سنة 23 من الهجرة (منذ قتل عمر) إلى يوم الناس هذا في سنة 1371 وقودًا لكلمة يزل بها لسان، ويتبجح بها صوت، وتستخفها أذن؟ أي إنسان يرضى لنفسه هذه الظنة الجائحة، فضلا عن إنسان عاقل، فضلا عن مسلم، فضلا عن مسلم يتقى الله، يرجو رحمته، ويخاف عذابه؟

قتل عمر وخلف أئمة الصحابة، فعاشوا زمن عثمان، وزمن على، وزمن معاوية -رضي الله عنهم-، وبقيت منهم بقية في عصر الأوائل من بني أمية، ثم خلفهم الذين اتبعوهم بإحسان من علماء الأمة وفقهائها وأهل دينها، وهم متوافرون يومئذ إلى أوائل عصر بني العباس، وكانوا هم علماء الأمة، وورثة النبوة، القائمون ببثّ دين الله في الأرض، الآمرون بالمعروف والناهون عن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015