لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ يَعْنِي فَلَا يَضُرُّهُ الْغَرَابَةُ فَإِنَّهَا لَا تُنَافِي الْحُسْنَ وَالصِّحَّةَ، فَإِنَّ الْغَرِيبَ مَا يَتَفَرَّدُ بِرِوَايَتِهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ مِنْ رِجَالِ النَّقْلِ فَإِنْ كَانَ التَّفَرُّدُ بِرِوَايَةِ مَتْنِهِ فَهُوَ غَرِيبٌ مَتْنًا، وَإِنْ كَانَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَنْهُ كَأَنْ يُعْرَفُ عَنْ صَحَابِيٍّ فَيَرْوِيهِ عَدْلٌ وَحْدَهُ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ فَهُوَ غَرِيبٌ إِسْنَادًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا (وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ كَانَ أَحَدُهُمْ يَشُدُّ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنَ الْجُهْدِ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا فَقِيلَ بِالضَّمِّ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ الْمُبَالَغَةُ وَالْغَايَةُ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ فِي الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فَأَمَّا الْمَشَقَّةُ وَالْغَايَةُ فَالْفَتْحُ لَا غَيْرُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، ثُمَّ مِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ الْجُهْدِ (وَالضَّعْفِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ، وَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ، وَلِذَا قَالَ (الَّذِي بِهِ مِنَ الْجُوعِ) بِإِفْرَادِ الْمَوْصُولِ وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ لِلْمَوْصُولِ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْجُهْدِ وَالضَّعْفِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ نَاشِئٌ مِنَ الْجُوعِ الشَّدِيدِ، هَذَا وَاسْتُشْكِلَ الْحَدِيثُ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُوَاصِلُوا، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ فَقَالَ إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى، وَفِي رِوَايَةٍ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي، وَفِي رِوَايَةٍ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي
وَيَسْقِينِي وَبِهَذَا تَمَسَّكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي حُكْمِهِ بِبُطْلَانِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجُوعُ وَيَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ، قَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْحُجَزُ بِالزَّايِ، وَهُوَ طَرَفُ الْإِزَارِ إِذْ مَا يُغْنِي الْحَجَرُ مِنَ الْجُوعِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْجُوعِ خَاصٌّ بِالْمُوَاصَلَةِ فَإِذَا وَاصَلَ يُعْطَى قُوَّةَ الطَّاعِمِ وَالشَّارِبِ أَوْ يُطْعَمُ وَيُسْقَى حَقِيقَةً، وَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْمُوَاصَلَةِ فَلَا يَرِدُ فِيهِ ذَلِكَ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ الْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ عَلَى جُوعِهِ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الْمُوَاصَلَةِ إِذْ تَحَقُّقُ الْجُوعِ وَرَبْطُ الْحَجَرِ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ.
مِنْهَا مَا سَبَقَ مَعَ اتِّفَاقِ الرُّوَاةِ وَاجْتِمَاعِ الْأُصُولِ عَلَى ضَبْطِ الْحَجَرِ بِالرَّاءِ، وَمِنْهَا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابَهُ جُوعٌ يَوْمًا فَعَمَدَ إِلَى حَجَرٍ فَوَضَعَهُ عَلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا رُبَّ نَفْسٍ طَاعِمَةٍ نَاعِمَةٍ فِي الدُّنْيَا جَائِعَةٌ عَارِيَةٌ، أَلَا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ، أَلَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُكْرِمٌ، وَمِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ: كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ، وَهِيَ بِضَمِّ كَافٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ قِطْعَةٌ صُلْبَةٌ فَجَاءُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ، فَقَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَّاقًا فَأَخَذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِعْوَلَ فَضَرَبَهُ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ، وَهُوَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، زَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَرَبَهَا ضَرْبَةً فَنَشَرَ ثُلُثَهَا، فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لِأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ، فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ الْآنَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ، فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِيَ السَّاعَةَ، وَمِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مَعَ تَأَلُّمِهِ بِالْجُوعِ لِيُضَاعِفَ لَهُ الْأَجْرَ حَفِظَ كَمَالَ قُوَّتِهِ وَصَانَ نَضَارَةَ جِسْمِهِ حَتَّى إِنَّ مَنْ رَآهُ لَا يَظُنُّ بِهِ جُوعًا بَلْ كَانَ جِسْمُهُ الشَّرِيفُ وَوَجْهُهُ اللَّطِيفُ أَشَدَّ رَوْنَقًا وَبَهَاءً مِنْ أَجْسَادِ الْمُتْرَفِينَ، ثُمَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْجُوعِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ (مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّا كُنَّا نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ فَقَدْ كَذَبَكُمْ، فَلَمَّا فُتِحَتْ قُرَيْظَةُ أَصَبْنَا شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ وَالْوَدَكِ، وَهُوَ مُحَرَّكَةٌ الدَّسَمُ، وَمِنْهَا مِمَّا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ (حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَاعَةٍ لَا يَخْرُجُ فِيهَا) أَيْ: فِي وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ، فَالْجُمْلَةُ صِفَةُ سَاعَةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَلَا يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ) أَيْ: بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ فِي حُجْرَتِهِ وَمُلَاقَاتِهِ بِاعْتِبَارِ عَادَتِهِ (فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ خُرُوجِهِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا جَاءَ بِكَ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَحْضَرَكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ (يَا أَبَا بَكْرٍ) وَفِيهِ إِيمَاءٌ
بِأَنَّ عَادَةَ الصِّدِّيقِ أَيْضًا كَانَتْ عَلَى وَفْقَ عَادَةِ النَّبِيِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ إِلَّا حِينَ يَخْرُجُ (فَقَالَ خَرَجْتُ أَلْقَى) أَيْ: لَعَلِّي أَلْقَى (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أُرِيدُ ذَلِكَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ. (وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ)