وَانْقِطَاعَ نُطْقِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَمَرَ الطَّيْرَ أَنْ تَظَلَّ عَلَى أَصْحَابِهِ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ، وَلَا يَتَكَلَّمُوا حَتَّى يَسْأَلَهُمْ مَهَابَةً مِنْهُ فَإِنَّ أَدَبَ الظَّاهِرِ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ فَقِيلَ لِلْقَوْمِ إِذَا سَكَتُوا مَهَابَةً كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَ جُلَسَائِهِ مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتِيَارُ السُّكُوتِ وَالسُّكُونِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ (فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَبْتَدِئُونَ بِالْكَلَامِ، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْأَدَبِ (لَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ) الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى لَا يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ أَوْ لَا يَخْتَصِمُونَ عِنْدَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَلِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ عَطْفَ تَفْسِيرٍ بِقَوْلِهِ (وَمَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا) أَيْ: سَكَتُوا وَاسْتَمَعُوا (لَهُ) أَيْ: لِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَهُ (حَتَّى يَفْرَغَ) أَيِ: الْمُتَكَلِّمُ مِنْ كَلَامِهِ أَوْ مِنْ مَقْصُودِهِ وَمَرَامِهِ (حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ) أَيْ: حَدِيثُ كُلِّهِمْ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ (عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ) أَيْ: كَحَدِيثِ أَوَّلِهِمْ فِي عَدَمِ الْمَلَالِ مِنْهُ أَوْ فِي الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ إِذِ الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِالْمَلَالِ وَضِيقِ الْبَالِ إِذَا كَثُرَ الْمَقَالُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ السَّلَفِ وَيُؤَيِّدُهُ نُسْخَةُ «أَوَّلِهِمْ» بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ مَعْنًى، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَفْضَلِهِمْ فِي الدِّينِ أَوْ أَوَّلِهِمْ قُدُومًا انْتَهَى، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْقُدُومَ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْعُلَمَاءِ الْمُدَرِّسِينَ وَالْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُفْتِينَ وَيَحْتَمِلُ قُدُومًا فِي الْهِجْرَةِ أَوْ فِي الْإِسْلَامِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُدَرِّسِينَ حَيْثُ إِنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ إِمَّا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي عَمَلِهِ الَّذِي يَقْرَأُ فِيهِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ مِيرَكُ بِأَنَّ مَنْ أَوَّلَهُ بِأَنَّ أَفْضَلَهُمْ أَوَّلُهُمْ قُدُومًا فَقَدْ تَعَسَّفَ
تَعَسُّفًا شَدِيدًا بَارِدًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ أَيْ: أَفْضَلِهِمْ إِذْ كَانَ لَا يَتَقَدَّمُ غَالِبًا بِالْكَلَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَّا أَكَابِرُ أَصْحَابِهِ فَكَانَ يُصْغِي لِحَدِيثِ كُلٍّ مِنْهُمْ كَمَا يُصْغِي لِحَدِيثِ أَوَّلِهِمُ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى عَدَمُ الْتِئَامِهِ بَيْنَ أَوَّلِ تَقْرِيرِهِ وَآخِرِ كَلَامِهِ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: حَدِيثُ جَمِيعِهِمْ إِنَّمَا كَانَ حَدِيثَ أَفْضَلِهِمْ فَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتَفُونَ بِكَلَامِ أَوَّلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَبْنَى وَأَفْهَمُ بِالْمَعْنَى، ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُهُمْ إِذَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ قَبِلَهُ مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ مُوَافِقُوهُ عَلَيْهِ غَالِبًا لِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَأَلُّفِ قُلُوبِهِمْ وَكَمَالِ اتِّفَاقِهِمْ، قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمْ بِقَوْلِهِ «أَوَّلِهِمْ» أَسْبَقَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَا أَفْضَلَهُمْ فِي الْمَقَامِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُ الْمَرَامِ (يَضْحَكُ) أَيْ: يَبْتَسِمُ (مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ) أَيْ: بِالْمُشَارَكَةِ فِي اسْتِحْسَانِ الْأَحْوَالِ (وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ) أَيْ: مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: فِي اسْتِغْرَابِ الْأَفْعَالِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ هَذَا مَنْ قَالَ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ (وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ) أَيْ: لِمُرَاعَاةِ حَالِهِ (عَلَى الْجَفْوَةِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَدْ يُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ: عَلَى الْجَفَاءِ وَالْغِلْظَةِ وَسُوءِ الْأَدَبِ مِمَّا كَانَ يَصْدُرُ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ بَدَا جَفَا» (فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ) الضَّمِيرَانِ لِلْغَرِيبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ إِذَا جَفَاهُ فِي مَقَالِهِ وَسُؤَالِهِ (حَتَّى أَنْ)