هَيِّنٌ (كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا) أَيْ: مُوَاجَهَةً (وَلَا يَعِيبُهُ) أَيْ: فِي الْغَيْبَةِ أَوْ لَا يَذُمُّ فِي الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُبَاحَةِ، وَلَا يَعِيبُ فِي الْأَطْوَارِ الْخُلُقِيَّةِ الْجِبِلِّيَّةِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَأَمْثَالِهَا وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ «وَلَا يُعَيِّرُهُ» مِنَ التَّعْيِيرِ، وَهُوَ التَّوْبِيخُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ كَمَا هُوَ مُخْتَارُ أَهْلِ التَّأْيِيدِ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: لَا يَذُمُّ أَحَدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا يُلْحِقُ بِهِ عَيْبًا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ؛ إِذِ الذَّمُّ وَالْعَيْبُ مُتَرَادِفَانِ مَعَ أَنَّ تَفْسِيرَهُ تَبَعًا لِشَارِحٍ فِي قَوْلِهِ لَا يُسْنِدُ إِلَى أَحَدٍ الْعَيْبَ يُوهِمُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِضَمِّ الْيَاءِ فِي يُعِيبُهُ إِمَّا مِنَ الْإِفْعَالِ أَوِ التَّفْعِيلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَجَعَلَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبِيلِ مُجَرَّدِ تَحَكُّمٍ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُسَاعِدُهُ مَعَ أَنَّ مَا قَدَّرْنَاهُ مَعَ مَا قَرَّرْنَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَقَامِ مَدْحِ مِثْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ نَفْيَ الذَّمِّ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي حَقِّهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْعَيْبُ خِلَافُ الْإِصْلَاحِ، وَظَاهِرٌ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ انْتَهَى.

وَغَرَابَتُهُ لَا يَخْفَى، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مِنَ الْمَنْفِيَّيْنِ أَحَدُ الثَّلَاثِ وَالثَّانِي قَوْلُهُ (وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ) أَيْ: عَوْرَةَ أَحَدٍ، وَهِيَ مَا يُسْتَحَى مِنْهُ إِذَا ظَهَرَ، فَالْمَعْنَى لَا يُظْهِرُ مَا يُرِيدُ الشَّخْصُ سَتْرَهُ وَيُخْفِيهِ النَّاسُ عَنِ الْغَيْرِ، وَقَدْ أَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ فَسَّرَهُ بِعَدَمِ تَجَسُّسِ عَوْرَةِ أَحَدٍ، فَإِنَّ مَقَامَ الْمَدْحِ يَأْبَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ (وَلَا يَتَكَلَّمُ) وَالْعَاطِفَةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي نُسْخَةٍ، وَلَا وَجْهَ لَهَا أَيْ: وَلَا يَتَعَلَّقُ (إِلَّا فِيمَا رَجَا) أَيْ: تَوَقَّعَ (ثَوَابَهُ) أَيْ: ثَوَابَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَعِبَارَةُ ابْنِ حَجَرٍ تُوهِمُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: آثَرَهُ عَلَى مَا يُثَابُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَلْيَقُ بِالْأَدَبِ؛ إِذْ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَى اللَّهِ إِنَابَةُ أَحَدٍ، وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ مِنَ الْعِظَمِ انْتَهَى، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَوْ قَالَ إِلَّا فِيمَا يُثَابُ لَمْ

يَدُلَّ عَلَى تَحَتُّمِ الثَّوَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (وَإِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ) أَيْ: أَمَالُوا رُءُوسَهُمْ وَأَقْبَلُوا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى صُدُورِهِمْ وَسَكَتُوا وَسَكَنُوا (كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ) بِالرَّفْعِ لِكَوْنِ مَا كَافَّةً عَنْ عَمَلِ مَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا لِإِجْلَالِهِمْ إِيَّاهُ لَا يَتَحَرَّكُونَ فَكَأَنَّ صِفَتَهُمْ صِفَةُ مَنْ عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِيدَهُ فَهُوَ يَخَافُ أَنْ يَتَحَرَّكَ فَيُوجِبُ طَيَرَانَ الطَّائِرِ وَذَهَابَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ، وَلَا يَتَحَرَّكُونَ حَتَّى يَصِيرُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الطَّائِرِ كَالْجُدْرَانِ وَالْأَبْنِيَةِ الَّتِي لَا يَخَافُ الطَّيْرُ حُلُولًا بِهَا، وَلَا وُقُوفًا عَلَيْهَا، وَفِي النِّهَايَةِ وَصَفَهُمْ بِالسُّكُونِ وَالْوَقَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ طَيْشٌ، وَلَا خِفَّةٌ؛ لِأَنَّ الطَّائِرَ لَا تَكَادُ تَقَعُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ سَاكِنٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصْلُهُ أَنَّ الْغُرَابَ إِذَا وَقَعَ عَلَى رَأْسِ الْبَعِيرِ فَيَلْتَقِطُ مِنْهُ الْحَلَمَةَ وَالْحَنَّانَةَ يَعْنِي: صِغَارَ الْقُرَادِ فَلَا يُحَرِّكُ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ لِئَلَّا يَنْفِرَ عَنْهُ الْغُرَابُ لِمَا يَجِدُ فِيهِ الرَّاحَةَ انْتَهَى.

فَشَبَّهَ حَالَ جُلَسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ تَكَلُّمِهِ عَلَيْهِمْ وَتَبْلِيغِهِ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْمَوَاعِظَ الْحِكَمِيَّةَ إِلَيْهِمْ بِحَالِ ذَلِكَ الْبَعِيرِ لِكَمَالِ مَيْلِهِمْ وَتَلَذُّذِهِمْ بِاسْتِمَاعِ كَلَامِهِ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سُكُونَهُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015