حَيْثُ ذَهَبَا إِلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ حَسَنٌ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْفِقْهِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ الْجُمُعَةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ، وَأُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ إِفْرَادُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ إِلَّا أَنْ يِوَافِقَ عَادَةً لَهُ مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رُسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.
فَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ إِلَى مَا بَعْدَهُ أَوْ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْوِصَالِ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ لَا يَصُومُ أَحَدُكُمُ الْمَشْعَرِ بِتَخْصِيصِ الْأُمَّةِ رَحْمَةً عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمْسِكُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ كَمَا رَوَى عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ انْتَهَى.
وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْتَحْسَنَ، وَأَطَالَ فِي مُوَطَّئِهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا لَكِنَّ السُّنَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَا رَوَاهُ، وَغَيْرُهُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ.
قُلْتُ: عَدَمُ بُلُوغِ الْحَدِيثِ مَالِكًا، وَسَائِرَ الْأَئِمَّةِ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي اسْتِحْسَانَهُ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ أَوِ اطَّلَعَ عَلَى تَارِيخٍ دَلَّ عَلَى نُسْخَةٍ أَوْ لَمَّا تَعَارَضَ حَدِيثُ الْفِعْلِ وَالنَّهْيِ وَتَسَاقَطَا بَقِيَ أَصْلُ الصَّوْمِ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمٍ لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ.
فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا يَصُومُ غَيْرَهُ أَبَدًا الْمُوهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمٍ غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالصِّيَامِ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْعَسْقَلَانِيِّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كَانَ لَا يَتَعَمَّدُ فِطْرَهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ يَصُومُهَا، وَلَا يُضَادُّ ذَلِكَ كَرَاهَةَ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ.
فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ أَوِ النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الضَّعْفُ لَا بِمَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْقُوَّةَ كَمَا ذَكَرُوا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَفِي النَّهْيِ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ ; فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَنْ يَضُرُّهُ، وَإِلَّا فَصَوْمُهُ أَحَبُّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا مِنَ الشَّهْرِ، فَلْيَصُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَلَا يَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ; فَإِنَّهُ يَوْمُ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَذِكْرٍ، فَكَأَنَّهُ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ فِيهِ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ; فَإِنَّ سَائِرَ الطَّاعَاتِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ فِيهِ إِذَا كَانَ يُعْجِزُهُ عَنْ وَظَائِفِ الْأَذْكَارِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ لِكَوْنِهِ يَوْمَ عِيدٍ وَالْعِيدُ لَا يُصَامُ، وَقِيَاسًا عَلَى أَيَّامِ مِنَى حَيْثُ وَرَدَ أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ السَّبْتَ، وَالْأَحَدَ وَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُمَا يَوْمُ
عِيدِ الْمُشْرِكِينَ فَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ، وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إِلَّا أَنْ يُصَامَ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَجَابَ ابْنُ جَوْزِيٍّ، وَغَيْرُهُ بِأَنَّ شَبَهَهُ بِالْعِيدِ لَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِوَاءَهُ مَعَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَمَنْ صَامَ مَعَهُ غَيْرُهُ انْتَفَتْ عَنْهُ صُورَةُ التَّحَرِّي بِالصَّوْمِ قَالَ: وَهَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ، وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صَوْمِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ انْتَهَى.
وَقِيلَ سَبَبُ النَّهْيِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ كَمَا خَشِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِيَامِهِمُ اللَّيْلَ فِي التَّرَاوِيحِ لِذَلِكَ وَدَفَعَ بِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِإِجَازَةِ صَوْمِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَجَازَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ: وَهُوَ كَذَلِكَ لِجَوَازِهِ بَعَدِّهِ مُنْفَرِدًا عِنْدَنَا أَوْ مُنْضَمًّا اتِّفَاقًا مَعَ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَنِينَ إِلَّا بِصَوْمِهِ وَحْدَهُ ظَنًّا لِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ فِيهِ، وَلِذَا قِيلَ سَبَبُ النَّهْيِ خَوْفُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ بِحَيْثُ يُفْتَتَنُ بِهِ كَمَا أَفْتُتِنَ قَوْمٌ بِالسَّبْتِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَتَعْلِيلِيٌّ لَائِحٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيُّ هَذَا ضَعِيفٌ مُنْتَقَضٌ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ وَظَائِفِ الْيَوْمِ.
فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ عُمُومَ الصَّوْمِ الشَّامِلِ لِلرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ وَسُكَّانِ الْبَادِيَةِ، وَالْقُرَى وَالْأَمْصَارِ مِنَ الْعَبِيدِ، وَالْأَحْرَارِ لَيْسَ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِشُرُوطٍ فِي وُجُوبِهَا، وَصِحَّةِ أَدَائِهَا مَعَ أَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ صَلَاةِ الظُّهْرِ الْمُؤَدَّاةِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ وَالْفَصْلُ بَاهِرٌ.
وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ بِقَوْلِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا أَنَّهُ يَوْمُ دُعَاءٍ، وَعِبَادَةٍ مِنَ الْغُسْلِ وَالتَّكْبِيرِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَإِكْثَارِ ذِكْرِ اللَّهِ بَعْدَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَاسْتَحَبَّ الْفِطْرَ فِيهِ لِيَكُونَ أَعْوَنَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْوَظَائِفِ،، وَأَدَائِهَا بِنَشَاطٍ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَاجِّ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَإِنَّ السُّنَّةَ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ.
فَفِيهِ أَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ لِمَنْ يَضْعُفُ بِالصِّيَامِ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ أَوْ أَنَّ النَّهْيَ