الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَهُ الْبُلْبُلَ، فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَبُو عُمَيْرٍ اسْمُهُ كَبْشَةُ أَخو أَنَسٍ لِأُمِّهِ وَأَبُو طَلْحَةَ بْنُ زَيْدِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ. انْتَهَى وَقَدْ مَاتَ نُغَيْرُهُ الَّذِي كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَمَازَحَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُمَازَحَةً.
فِيهِ مُمَازَحَةُ الصَّغِيرِ لِتَسْلِيَتِهِ، وَتَطْيِيبِ خَاطِرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيفَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّعَلُّقُ بِالْفَانِي كَمَا حُكِيَ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ مَعْشُوقُهُ وَكَانَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ عَارِفٌ: لِمَ لَمْ تُحِبَّ الْحَيَّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلُطْفُهُ لَا يَفُوتُ؟ .
هَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: حَتَّى غَايَةٌ لِقَوْلِهِ يُخَالِطُنَا، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِأَنَسٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَيِ: انْتَهَى مُخَالَطَتُهُ بِأَهْلِنَا كُلِّهِمْ حَتَّى الصَّبِيِّ، وَحَتَّى الْمُدَاعَبَةِ مَعَهُ، وَحَتَّى السُّؤَالِ عَنْ فِعْلِ نُغَيْرِهِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِعْلُ التَّأْثِيرُ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَثِّرِ وَالْعَمَلُ كُلُّ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْحَيَوَانِ بِقَصْدٍ وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَقَعُ مِنْهَا فِعْلٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْجَمَادَاتِ، وَالْمَعْنَى مَا حَالُهُ، وَشَأْنُهُ (قَالَ أَبُو عِيسَى: وَفِقْهُ هَذَا الْحَدِيثِ) أَيِ: الْمَسَائِلُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْزَحُ وَفِيهِ) أَيْ: فِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ كَنَّى غُلَامًا صَغِيرًا) بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مَفْعُولُهُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ بِالْبَاءِ، وَدُونَهَا، وَعَلَى الثَّانِي، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْبَاءِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكُنْيَةُ وَاحِدَةُ الْكُنَى وَاكْتَنَى فُلَانٌ هَكَذَا وَفُلَانٌ يُكَنَّى بِأَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَكُنْيَتُهُ أَبَا زَيْدٍ وَبِأَبِي زَيْدٍ نُكَنِّيهِ (فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ) .
وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ تَكْنِيَةٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَكُونَ مَكْنِيًّا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَكَنَّاهُ بِكُنْيَةٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَكُونَ مَكْنِيًّا مِنْ أَوَّلُ فَكَنَّاهُ بِكُنْيَةٍ، وَعَدَلَ عَنِ اسْمِهِ إِلَى كُنْيَتِهِ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ فِي الْكَلَامِ.
وَالنَّهْيُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِيهِ تَكَلُّفٌ، وَتَكْلِيفٌ لِلطَّبْعِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ السَّجْعِ فِي الْكَلَامِ: وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالسَّجْعِ حِينَ الْمُزَاحِ، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ كَلِمَاتِهِ الْمُسَجَّعَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدَعْوَةٍ لَا تُسْمَعُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ.
ثُمَّ خُلَاصَةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي فِقْهِ الْحَدِيثِ هُنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّكَنِّي لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْكَذِبِ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّكْنِيَةِ التَّعْظِيمُ، وَالتَّفَاؤُلُ لَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ مِنْ إِثْبَاتِ أُبُوَّةٍ، وَبُنُوَّةٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ عُمَيْرٌ مُصَغَّرُ الْعُمُرِ لِلْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّهُ يَعِيشُ قَلِيلًا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْأَخْذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَكْنِيَةُ الصَّغِيرِ بِأَبِي فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الْإِيلَادُ وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ أَبِي الْفَضْلِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ عُمَيْرًا مُصَغَّرُ عُمُرٍ لَا أَنَّهُ اسْمُ
شَخْصٍ آخَرَ انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ أَيْنَ لَهُ الْجَزْمُ بِأَنَّ عُمَيْرًا تَصْغِيرُ عُمُرٍ، وَلَيْسَ بِعَلَمٍ مَعَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ عَلَمٌ مُتَعَارَفٌ، وَحِينَئِذٍ صَحَّ الْأَخْذُ بِهِ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ بِمَا ذَكَرَ، فَتَأَمَّلْهُ تَمَّ كَلَامُهُ.
وَفِيهِ عَلَى أُسْلُوبِ آدَابِ الْبَحْثِ أَنَّ صَاحِبَ الْقِيلِ مَانِعٌ لِلْعَلَمِيَّةِ جَازِمًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ جَازِمًا، وَسَنَدُ مَنْعِهِ وَاضِحٌ جِدًّا لِوُضُوحِ فَقْدِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّكْنِيَةِ هَذَا فَعَلَى مُدَّعِي الْإِثْبَاتِ إِثْبَاتُهُ، فَلَا يَكْفِي فِي الْمَقَامِ قَوْلُهُ أَنَّهُ عَلَمٌ مُتَعَارَفٌ كَثِيرًا إِذِ الْخَصْمُ لَا يَمْنَعُ مِثْلَهُ فِي غَيْرِ الصَّغِيرِ.
فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ كَانَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ إِذْ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، وَكَانَ لَهُ نُغَيْرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَآهُ حَزِينًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُ؟ قَالُوا: مَاتَ نُغَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَاءَهُ وَرَوَاهُ، فَقَالَ أَبَا عُمَيْرٍ: مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ هَذَا وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَابِ أَبِي الْفَضْلِ لِلتَّفَاؤُلِ فَالتَّفَاؤُلُ بِقِلَّةِ الْعَيْشِ مِنْ قِلَّةِ الْعَقْلِ.
بَقِيَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ، فَيُقَالُ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْلَاقِهِ الْحَسَنَةِ أَنْ يَقُولَ لِوَلَدٍ صَغِيرٍ عِبَارَةً مُشْعِرَةً بِأَنَّ عُمُرَهُ قَصِيرٌ، نَعَمْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُ عَلَمِيَّةٍ لَهُ لَكَانَ وَجْهٌ وَجِيهٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ تَصْغِيرٌ لِلْعُمُرِ بِاعْتِبَارِ عُمُرِ طَيْرِهِ أَيْ: أَيْ يَا صَاحِبَ نُغَيْرٍ عُمُرُهُ قَصِيرٌ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَجَلَهُ فَرَغَ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي التَّسْلِيَةِ عِنْدَ التَّعْزِيَةِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَفِيهِ) أَيْ وَفِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الصَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ الصَّغِيرَ: (الطَّيْرَ) وَفِي نُسْخَةٍ الطَّائِرَ (يَلْعَبُ) أَيِ: الصَّبِيُّ. (بِهِ) أَيْ: بِالطَّيْرِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا