حَتَّى أَجِيءَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعِ خَابِزَةً لِتَخْبِزَ مَعَكِ، وَاقْدَحِي - أَيِ اغْرِفِي - مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا، وَهُمْ أَلْفٌ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَأَنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغُطُّ - أَيْ تَغْلِي -، وَيُسْمَعُ غَطِيطُهَا كَمَا هِيَ، وَأَنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ.
كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ، كَأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَبْحَ الشَّاةِ بَعْدَ إِتْيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْزِلِ جَابِرٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي قِصَّةِ الْخَنْدَقِ يَدُلُّ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ فِي رَيْبٍ فَارْجِعْ إِلَى الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي فِي مِشْكَاةِ الْمَصَابِيحِ، انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ دَفْعُ الْإِشْكَالِ بِأَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: أَتَانَا أَيْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَنَا بِمُنَادَاتِنَا إِيَّاهُ، فَذَبَحْنَا لَهُ شَاةً فَنَادَيْنَاهُ وَأَعْلَمْنَاهُ بِمَا عِنْدَنَا مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ، وَصَاعِ الشَّعِيرِ، فَقَالَ: «كَأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّا نُحِبُّ اللَّحْمَ» ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَذَبَحْنَا لَهُ شَاةً أُخْرَى لِمَا رَأَيْنَا مِنْ كَثْرَةِ أَصْحَابِهِ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ مَنْزِلَ جَابِرٍ لِحَاجَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَانْقَلَبَ جَابِرٌ إِلَى بَيْتِهِ، وَصَنَعَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِهِ، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ وَاسْتِيفَاؤُهَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُطَوَّلَاتِ.
(حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ) أَيْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخُو عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُفْيَانُ) أَيْ فِي إِسْنَادٍ آخَرَ (وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بِالْوَاوِ
عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَحْوِيلُ الْإِسْنَادِ وَفِي نُسْخَةٍ (ح) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنَ الْمَسْجِدِ (وَأَنَا مَعَهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ مَعَهَا خَدَمُهَا وَحَشَمُهَا (فَذَبَحَتْ لَهُ شَاةً) أَيْ حَقِيقَةً أَوْ أَمَرَتْ بِذَبْحِهَا، وَالْجَزْمُ بِالثَّانِي يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ (فَأَكَلَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَالَةً وَغَيْرُهُ مَعَهُ تَبَعًا (مِنْهَا) أَيْ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ (وَأَتَتْهُ) أَيِ الْمَرْأَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ (بِقِنَاعٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ الطَّبَقُ الَّذِي يُؤْكَلُ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَقَيَّدَهُ فِي الْقَامُوسِ بِأَنَّهُ طَبَقٌ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ جَاءَتْهُ بِهِ مَوْضُوعًا فِيهِ (مِنْ رُطَبٍ) أَيْ: بَعْضُهُ (فَأَكَلَ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الرُّطَبِ، أَوْ مِمَّا فِي الْقِنَاعِ (ثُمَّ تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ) أَيْ لِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ لِغَيْرِهِ (وَصَلَّى) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ، فَأَتَتْهُ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ مِنْ مَحَلِّهَا (فَأَتَتْهُ بِعُلَالَةٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ بَقِيَّةٍ (مِنْ عُلَالَةِ الشَّاةِ) أَيْ مِنْ بَقِيَّةِ لَحْمِهَا، وَمِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ.
وَزَعَمَ أَنَّهَا بَيَانِيَّةٌ بُعَيْدَ ذِكْرِهِ ابْنَ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْعُلَالَةَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ بَقِيَّةُ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ، فَالْبَيَانِيَّةُ لَهَا وَجْهٌ وَجِيهٌ (فَأَكَلَ) قِيلَ: فِيهِ شَبِعَ مِنْ لَحْمٍ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَمَا مَرَّ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهَا أَوْ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ، لَكِنَّ دَعْوَى الشِّبَعِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، نَعَمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ الْأَكْلِ ثَانِيًا، بَلْ قَدْ يُنْدَبُ ذَلِكَ جَبْرًا لِخَاطِرِ الْمُضِيفِ وَنَحْوِهِ، (ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وَالْأَوَّلُ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، وَالثَّانِي لِبَيَانِ الْجَوَازِ.
(حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ) بِضَمِّ الْفَاءِ فَفَتْحِ اللَّامِ (بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ) يُقَالُ: اسْمُهَا سَلْمَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّةُ، مِنْ بَنِي النَّجَّارِ،