وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ بَقِيَّةَ أَوْلَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَاطِمَةَ، وَأَنَّ سَبَبَ الْأَفْضَلِيَّةِ مَا فِيهِنَّ مِنَ الْبَضْعَةِ الشَّرِيفَةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ حَكَى السُّبْكِيُّ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ عَصْرِهِ، أَنَّهُ فَضَّلَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، أَيْ مِنْ حَيْثُ الْبَضْعَةِ لَا مُطْلَقًا، فَهُمْ أَفْضَلُ مِنْهَا عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَأَكْثَرُ ثَوَابًا وَآثَارًا فِي الْإِسْلَامِ، قُلْتُ: إِذَا لُوحِظَتِ الْحَيْثِيَّةُ فَمَا يُوجَدُ أَفْضَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُطْلَقًا ; وَلِذَا قِيلَ: أَنَّ عَائِشَةَ أَفْضَلُ مِنْ فَاطِمَةَ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَكُونُ مَعَ زَوْجَيْهِمَا فِي الْجَنَّةِ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ مَنْزِلَتِهِمَا، هَذَا وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي إِتْمَامِ الدِّرَايَةِ شَرْحِ النُّقَايَةِ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» ، وَفِي الصَّحِيحِ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ» ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ لِيُسَلِّمَ عَلَيَّ وَبَشَّرَنِي أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأُمَّهُمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَمْعِ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، حَتَّى تَمُرَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِهَا عَلَى مَرْيَمَ خُصُوصًا، إِذَا قُلْنَا: بِالْأَصَحِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَبِيَّةً، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ، مَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَفَاطِمَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا فَاطِمَةُ» ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمُرْسَلُ يُفَسِّرُ الْمُتَّصِلَ، قُلْتُ: يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ خَدِيجَةُ، ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، بَعْدَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ
وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ رَكِبَتْ بَعِيرًا مَا فَضَّلْتُ عَلَيْهَا أَحَدًا» ، ثُمَّ قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ وَآسِيَةُ وَخَدِيجَةُ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
وَفِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا الْوَقْفُ، قُلْتُ: وَقَدْ صَحَّحَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ قَالَتْ: قَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَزَقَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، آمَنَتْ بِي حِينَ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَأَعْطَتْنِي مَالَهَا حِينَ حَرَمَنِي النَّاسُ.
وَسُئِلَ ابْنُ دَاوُدَ، فَقَالَ: عَائِشَةُ أَقْرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ مِنْ جِبْرِيلَ وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا السَّلَامَ جِبْرِيلُ مِنْ رَبِّهَا، فَهِيَ أَفْضَلُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، فَقِيلَ: فَأَيٌّ أَفْضَلُ فَاطِمَةُ أَمْ أُمُّهَا؟ قَالَ: فَاطِمَةُ بَضْعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا نَعْدِلُ بِهَا أَحَدًا.
وَسُئِلَ السُّبْكِيُّ، فَقَالَ: الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنُدِينُ اللَّهَ بِهِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَفْضَلُ، ثُمَّ أُمَّهَا خَدِيجَةَ، ثُمَّ عَائِشَةَ، وَعَنِ ابْنِ الْعِمَادِ، أَنَّ خَدِيجَةَ إِنَّمَا فُضِّلَتْ عَلَى فَاطِمَةَ بِاعْتِبَارِ الْأُمُومَةِ، لَا السِّيَادَةِ، انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَيْثِيَّاتِ مُخْتَلِفَةٌ، وَالرِّوَايَاتِ مُتَعَارِضَةٌ، وَالْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ، وَالتَّوَقُّفَ لَا ضَرَرَ فِيهِ قَطْعًا، فَالتَّسْلِيمَ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ) قِيلَ: اسْمُهُ ذَكْوَانُ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرَهُ (تَوَضَّأَ مِنْ ثَوْرِ أَقِطٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ مُثَلَّثَةٌ، وَيُحَرَّكُ وَكَكَتِفٍ وَرَجُلٍ وَإِبِلٍ، شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْمَخِيضِ الْغَنَمِيِّ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ أَكْلِ قِطْعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْأَقِطِ، فَفِي الْقَامُوسِ الثَّوْرُ الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْأَقِطِ، فَفِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ بَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ (ثُمَّ رَآهُ أَكَلَ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) أَيِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ، وَهُوَ الْوُضُوءُ مِنْ ثَوْرِ أَقِطٍ، قَدْ نُسِخَ بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآخِرَةٍ مِنْ أَكْلِهِ كَتِفَ الشَّاةِ، وَعَدَمَ تَوَضُّئِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ثُمَّ الْمُقْتَضِيَةُ لِلتَّرَاخِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ: الثَّوْرُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَقِطِ،