520 - وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، ثَنَا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ الْخَيَّاطُ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتَهُ»

وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مُطْلَقًا، وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْبِدْعَةِ وَتَقَبُّلُ تَوْبَةِ الْكَافِرِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ الْكُفْرُ بِأَعْظَمَ مِنَ الْبِدْعَةِ، لأَنَّ الْكَافِرَ ذَنْبُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِخِلافِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّهَا تَغْوِي غَيْرَهُ، وَلا يُمْكِنُ بَعْدَ إِظْهَارِهَا قَطْعُهَا , وَبَعْدَ أَنَّهُ تَابَ بِنَفْسِهِ، كَيْفَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَيْهَا، وَمَنْ يَتَّبِعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، اللَّهَ اعْصِمْنَا مِنَ الْبِدَعِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

ثُمَّ قَالَ: بَابُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بِشَارَتِهِ بِقُدُومِ أَبِي مُوسَى وَأَهْلِ الْيَمَنِ، وَإِشَارَتِهِ إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ عِلْمِ أَبِي الْحَسَنِ.

أَمَّا بِشَارَتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأَبِي مُوسَى فَحَقٌّ لا نِزَاعَ فِيهِ، وَأَمَّا إِشَارَتُهُ إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ عِلْمِ أَبِي الْحَسَنِ فَأَمْرٌ مَرْدُودٌ، أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ ذَلِكَ؟ وَأَيُّ عِلْمٍ ظَهَرَ مِنْهُ لَيْسَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالْحَلالِ وَالْحَرَامِ قَوْلٌ، وَلا يُعْلَمُ لَهُ مِنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْفُرُوعِ كَلامٌ، فَأَيُّ عِلْمٍ ظَهَرَ مِنْهُ؟ وَأَيُّ إِشَارَةٍ حصلتْ فِيهِ؟ وَإِذَا كَانَ مِثْلَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَغَيْرِهِمْ، لَمْ تَرِدْ إِشَارَةٌ بِعِلْمِهِمْ، وَقَدْ مَلَأَ عِلْمُهُمُ الآفَاقَ، كَيْفَ تَرِدُ إِشَارَةٌ بِعِلْمِ مَنْ لا يُعْرَفُ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلٌ؟ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ، إِنَّمَا يُعْرَفُ كَلامُهُ وَعِلْمُهُ فِي عِلْمِ الْكَلامِ الْمَذْمُومِ، ثُمَّ سَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ الأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ أَقْوَامٌ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، فَقَدِمَ الأَشْعَرِيُّونَ» ، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذَا، أَيُّ إِشَارَةٍ فِي هَذَا إِلَيْهِ؟ أَمَا اسْتَحْيَا ابْنُ عَسَاكِرَ حِينَ ذَكَرَ هَذَا التأويلَ وَهَذِهِ الأَحَادِيثَ؟ فَوَاللَّهِ لَيْسَ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلا إِلَى عِلْمِهِ، وَلا عِلْمِ غَيْرِهِ، وَطَوَّلَ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ، وَسَاقَهَا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، يَقْصِدُ الإِطَالَةَ وَالتَّحْقِيقِ.

وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الآخَرَ لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا، وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى ظَهْرِ أَبِي مُوسَى أَهْلُ الْيَمَنِ» ، وَسَاقَ ذَلِكَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَلَيْسَ فِيهَا إِشَارَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِذَا كَانَ أَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ قَدْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي قُرَيْشٍ: «يَمْلَأُ عَالِمُهَا الأَرْضَ عِلْمًا، وَفِي الْمَدِينَةِ فَلا تُضْرَبُ أَكْبَادُ الإِبِلِ، فَلا يُوجَدُ أَعْلَمُ مِنْ عَالِمِهَا» .

وَفِيهِمَا إِشَارَةٌ ظَاهِرَةً إِلَى مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، لَيْسَتْ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِمَا، كَيْفَ يَكُونُ فِي هَذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ إِشَارَةٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ حَالَ بُرُوزِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ نِسْبَتَهُ إِلَى أَبِي مُوسَى إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا التَّعَصُّبُ وَالْهَوَى.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَ قَوْمَ أَبِي مُوسَى مِنْ قَوْمٍ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَهُ، لِمَا عَلِمَ مِنْ صِحَّةِ دِينِهِمْ، وَعَرَفَ مِنْ قُوَّةِ يَقِينِهِمْ، فَمَنْ نَحَا فِي عِلْمِ الأُصُولِ نَحْوَهُمْ، وَتَبِعَ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ مَعَ مُلَازَمَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَوْلَهُمْ جُعِلَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَعُدَّ مِنْ حِسَابِهِمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِذْنِهِ، أَعَانَنَا اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَنِّهِ، وَخَتَمَ لَنَا بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ بِجُودِهِ.

قَالَ: وَلْنَعْلَمِ الْمُنْصِفُ مِنْ أَصْحَابِنَا، صَنَعَ اللَّهُ فِي تَقْدِيمِ هَذَا الأَصْلِ الشَّرِيفِ لِمَا ذَخَرَ لِعِبَادِهِ هَذَا الْفَرْعَ الْمُنِيفَ الَّذِي أَحْيَا بِهِ السُّنَّةَ، وَأَمَاتَ بِهِ الْبِدْعَةَ، وَجَعَلَهُ خَلَفَ حَقٍّ لِسَلَفِ صِدْقٍ، وَهَذَا الْكَلامُ عَيْنُ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ زَمَنِ الأَشْعَرِيِّ غَيْرَ زَمَنِ الأَئِمَّةِ قَبْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ أَنَّ الأَشْعَرِيَّ كَانَ عَلَى الْبِدْعَةِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَأَيُّ بِدْعَةٍ كَانَ غَيْرَهُ قَدِ ارْتَكَبَهَا وَأَمَاتَهَا هُوَ؟ أَبِدْعَةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؟ أَوْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ؟ أَوِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ؟ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ؟ وَأَيُّ سُنَّةٍ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ فِي زَمَنِ هَؤُلاءِ، حَتَّى أَحْيَاهَا هُوَ؟ وَاللَّهِ هَذَا كَلامٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» ، وَذَكَرَهُ مِنْ طُرُقٍ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ: أَنَّهُ كَانَ فِي الْمِائَةِ الأُولَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَفِي الثَّانِيَةِ الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيَّ أَنَّ فِي الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ الأَشْعَرِيَّ، وَهَذَا عَيْنُ الْعِنَادِ، فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ قَامَ لِلدِّينِ بِمِحْنَةٍ وَلا قَائِمَةٍ، وَلا يُعْرَفُ لَهُ مَسْأَلَةٌ فِي الأَحْكَامِ وَالْفُرُوعِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الإِسْمَاعِيلِيِّ، قَالَ: ذَكَرَ وَاحِدًا، وَالشَّكُّ مِنِّي، قَالَ: أَعَاذَ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ أَكْثَرهُ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ الإِسْتَرَابَاذِيِّ، قُلْتُ: لَيْسَ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ ذِكْرٌ الأَشْعَرِيِّ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ الْمُسَلَّمِ السُّلَمِيَّ، يَقُولُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ: كَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الأُولَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَلَى رَأْسِ الثَّانِيَةِ الشَّافِعِيُّ، وَعَلَى رَأْسِ الثَّالِثَةِ الأَشْعَرِيُّ، وَعَلَى رَأْسِ الرَّابِعَةِ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَعَلى رَأْسِ الْخَامِسَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَرْشِدُ، قَالَ: وَعِنْدِي إِنَّمَا كَانَ الْغَزَالِيُّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَ لا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِ الأَشْعَرِيِّ.

وَمَنْ يَمْدَحُ الْعَرُوسَ غَيْرَ أُمِّهَا وَخَالَتِهَا، وَكَيْفَ يَكُونُ الأَشْعَرِيُّ الْمُجَدِّدَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَلا يَكُونُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَلا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ، وَلا الْبُخَارِيُّ، وَلا مُسْلِمٌ، وَلا الْمَرُّوذِيُّ، وَلا الْخَلَّالُ، وَنَحْوُ هَؤُلاءِ مِنَ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَقْوَالُهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْفُرُوعِ مَشْهُورَةٌ، وَكَيْفَ يَكُونُ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ الْمُتَكَلِّمَ فِي الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ، وَلا يَكُونُ ابْنُ حَامِدٍ، وَلا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَنَحْوُ هَؤُلاءِ مِنَ الأَئِمَّةِ، هَذَا عَيْنُ الْهَوَى وَالْعِنَادِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ حَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِ الثَّلاثِ مِائَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شُرَيْحٍ، وَعَلَى رَأْسِ الأَرْبَعِ مِائَةٍ الصُّعْلُوكِيُّ، قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: أَنَّهُ الأَشْعَرِيُّ أَصْوَبُ، لأَنَّ قِيَامَهُ بِنَصْرِ السُّنَّةِ إِلَى تَجْدِيدِ الدِّينِ أَقْرَبُ، فَهُوَ الَّذِي انْتُدِبَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُضَلِّلَةِ، وَحَالَتُهُ فِي ذَلِكَ مُشْتَهِرَةٌ، وَكُتُبُهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مُنْتَشِرَةٌ، فَأَمَّا ابْنُ شُرَيْحٍ فَكَانَ فَقِيهًا مُطَّلِعًا يَعْلَمُ أُصُولَ الْفِقْهِ وَفُرُوعَهُ، قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ ابْنَ الْبَاقِلَّانِيِّ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ أَوْلَى، كَذَبَ وَاللَّهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَذْهَبِهِ، وَكَيْفَ يَكُونُ أَهْلُ الْكَلامِ الَّذِينَ لا يُعْرَفُ لَهُمْ مَسْأَلَةٌ فِي الدِّينِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ هُمُ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ، هَذَا هُوَ الْعِنَادُ وَالْبُهْتَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ وَفَاةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالأَشْعَرِيِّ.

ثُمَّ قَالَ: بَابُ ذِكْرِ مَا رُزِقَ أَبُو الْحَسَنِ مِنْ شَرَفِ الأَصْلِ، وَمَا وَرَدَ عَنْ تَلْبِيَةِ ذِي الْفَهْمِ عَلَى كِبَرِ مَحَلِّهِ فِي الْفَصْلِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِي عِدَّةِ طُرُقٍ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ، «أَنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ» .

وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَ الْحَيُّ الأَسْدُ وَالأَشْعَرِيُّونَ» ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إِنِّي لأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ» .

ثُمَّ ذَكَرَ أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةً فِي فَضْلِ الأَشْعَرِيِّينَ وَمَنَاقِبِهِمْ وَهِجْرَتِهِمْ بِطُرُقٍ عَدِيدَةٍ، يَقْصِدُ بِهَا الإِطَالَةَ وَالتَّحْقِيقَ، وَلَيْسَ لَهَا بِذَلِكَ مَحَلٌّ وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ لِهَذَا الرَّجُلِ، وَهَذَا عَيْنُ الْخِرَافِ وَالْجُنُونِ، وَلا يَدُلُّ فَضْلُ أُولَئِكَ عَلَى فَضْلِ أَوْلَادِهِمْ حَقِيقَة لَوْ كَانَ، ثُمَّ فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ فَضَائِلِ الأَشْعَرِيِّينَ، ثُمَّ ذَكَرَ فَضْلَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ «اسْتَغْفَرَ لأَبِي مُوسَى وَدَعَا لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بِشَارَةٌ لأَبِي الْحَسَنِ بِدُخُولِهِ فِي الاسْتِغْفَارِ، إِذْ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ لا تَخْفَى عَلَى ذَوِي الْعُقُولِ.

وَلا أَعْلَمُ هَذِهِ الإِشَارَةَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ فِيهِ، وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَحَدٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَكِنَّ هَذَا عَيْنُ الْبُهْتَانِ، وَالتَّخْفِيفِ علَى مَنْ لا عَقْلَ لَهُ مِثْلَهُ، أَيْنَ هَذِهِ الإِشَارَةُ؟ أَمْ أَيْنَ مَحَلُّهَا؟ أَمْ كَيْفَ هِيَ؟ مَا هَذَا التَّمْوِيهُ وَالتَّلْبِيسُ؟ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذَا «صَلَّى لِرَجُلٍ، أَوْ دَعَا لَهُ أَصَابَتْ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ» ، هَذَا إِذَا ثَبَتَتْ لأَبُوه، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ضَلالَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ إِلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ» .

وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَوْ سَلَّمَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هَذَا مَعَ صِحَّةِ النَّسَبِ وَصِدْقِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ فَضَائِلِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، وَفَضَائِلِ وَلَدِهِ أَبِي بُرْدَةَ، مِمَّا لا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِيهِ وَلا يَشُكُّ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الإِطَالَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ فَضَلَ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ بِلالٍ، ثُمَّ فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا فَضْلُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ، مِمَّا شَهِدَ لَهُ بِهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيِّ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ فِي مَذْهَبِ الأَشْعَرِيِّ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي نُصْرَتِهِ أَنَّهُ قَالَ عَنْهُ: إِنَّهُ كَانَ تِلْمِيذَ الْجُبَائِيِّ، يَدْرُسُ عَلَيْهِ، وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَيَأْخُذُ عَنْهُ لا يُفَارِقُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ صَاحِبَ نَظَرٍ فِي الْمَجَالِسِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّقَشُّفِ، وَكَانَ إِذَا أَخَذَ الْعِلْمَ يَكْتُبُ رُبَّمَا يَنْقَطِعُ، وَرُبَّمَا يَأْتِي بِكَلامٍ غَيْرِ مُرْضِيٍّ، وَكَانَ الْجُبَائِيُّ صَاحِبَ تَصَانِيفَ وَقَلَمٍ إِذَا صَنَّفَ يَأْتِي بِكُلِّ مَا أَرَادَ، وَإِذَا حَضَرَ الْمَجْلِسَ، وَنَاظَرَ، لَمْ يَكُنْ بِمُرْضِيٍّ، وَكَانَ إِذَا دَهَمَهُ الْحُضُورُ فِي الْمَجْلِسِ يَبْعَثُ الأَشْعَرِيَّ، وَيَقُولُ لَهُ: نُبْ عَنِّي، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمًا حَضَرَ الأَشْعَرِيُّ نَائِبًا عَنِ الْجُبَائِيِّ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ، وَنَاظَرَهُ إِنْسَانٌ، فَانْقَطَعَ وَسَقَطَ فِي يَدِهِ، وَكَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَامَّةِ، فَنَثَرَ عَلَيْهِ لَوْزًا وَسُكَّرًا، فَقَالَ لَهُ الأَشْعَرِيُّ: مَا صَنَعْتُ شَيْئًا، خَصْمِي اسْتَظْهَرَ عَلَيَّ، وَأَفْلَجَ الْحُجَّةَ، كَانَ أَحَقَّ بِالنِّثَارِ مِنِّي، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالانْتِقَالَ عَنْ مَذْهَبِهِ، قَالَ: فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَإِطْرَاحِهِ، وَتُنَبِّئُ عَنْ وُفُورِ عَقْلِهِ، وَإِنْصَافِهِ لإِقْرَارِهِ بِظُهُورِ خَصْمِهِ، وَاعْتِرَافِهِ، قَالَ: فَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِيهَا عَنْهُ مِنْ رَدَاءَةِ الّتَصْنِيفِ، وَجُمُودِ خَاطِرِهِ عِنْدَ الأَخْذِ فِي التَّأْلِيفِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ حَالَهُ فِي الابْتِدَاءِ لا بَعُدُّ مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ مِنَ الاهْتِدَاءِ، فَإِنَّ تَصَانِيفَهُ مُسْتَحْسَنَةٌ مُهَذَّبَةٌ، وَتَوَالِيفَهُ وَعِبَارَاتِهِ مُسْتَجَادَةٌ مَسْتَصْوَبَةٌ، فَيَالَيْتَهُ سَتَرَ نَفْسَهُ، وَأَخْفَى هَذِهِ الْحِكَايَةَ وَلَمْ يُحْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّ فِيهَا فَضَحَهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَلِهَذَا عَدَّهَا الأَهْوَازِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مَثَالِبِهِ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْجُهَلاءِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ مِنْ مَثَالِبِهِ، وَهِيَ عِنْدَ الْعُقَلاءِ مِنْ جُمْلَةِ مَنَاقِبِهِ، قَالَ: فَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ طُولِ مُقَامِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَمِمَّا لا يُفْضِي بِهِ إِلَى انْحِطَاطِ الْمَنْزِلَةِ، قُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ، قَالَ: بَلْ يُفْضِي لَهُ فِي مَعْرِفَةِ الأُصُولِ بِعُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ فِي مَذْهَبِ الاعْتِزَالِ، نَعَمْ، وَأَمَّا فِي أُصُولِ السُّنَّةِ فَلا، قَالَ: وَيَدُلُّ عِنْدَ ذَوِي الْبَصَائِرِ عَلَى سُمُوِّ الْمَنْقَبَةِ عِنْدَ الْجُهَّالِ، قَالَ: لأَنْ يَرْجِعَ عَنْ مَذْهَبٍ كَانَ بِعَوَارِهِ أَخْبَرَ وَعَلَى رَدِّ شُبْهَةِ أَهْلِهِ وَكَشْفِ تَمْوِيهَاتِهِمْ أَقْدَرَ، وَتَبَيُّنِ مَا يُلْبِسُونَ بِهِ لِمَنْ يَهْتَدِي بِاسْتِبْصَارِهِ أَبْصَرَ، قَالَ: فَاسْتِرَاحَةُ مَنْ يُعِيرُهُ لِذَلِكَ كَاسْتِرَاحَةِ مَنَاظِرِ هَارُونَ بْنِ مُوسَى الأَعْوَرِ، قُلْتُ: مَنْ نَشَأَ عَلَى أَمْرٍ، وَأَفْنَى عُمْرَهُ فِيهِ، قَلَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ قَلْبِهِ، وَلَوْ تَابَ مِنْهُ، وَلَوْ رَجَعَ عَنْ بَعْضِهِ، لا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ كُلِّهِ، لاسِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ هُوَ أَنَّهُ يُمَوِّهُ بِذَلِكَ عَلَى أَعْدَائِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةَ هَارُونَ الأَعْوَرِ، وَذَكَرَ بَعْضَ مُنَاظَرَاتِ الأَشْعَرِيِّ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَكُلُّ مَا أَوْرَدَهُ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمُنَاظَرَاتِ، إِنَّمَا هُوَ خَصْمُهُ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَيْفَ التَّائِبُ يَكُونُ مَعَ مَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى الْبِدْعَةِ، وَلا يَتْرُكُهُ وَيَلْزَمُ أَهْلَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ التَّائِبَ لا يَعُودُ إِلَى أَرْبَابِ بِدْعَتِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَهُوَ قَوْلُ أَهْوَى كُلِّ نَفْسٍ أَيْنَ حَلَّ حَبِيبُهَا، وَفِي بَعْضِ كَلامِهِ لِمَنْ خَاطَبَهُ فِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ، قَالَ: إِنِّي أَظْهَرْتُ بِدْعَةً أَنْقُضُ بِهَا كُفْرَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: فَإِنْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ: أَظْهَرْتُ بِدْعَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ، فَقَدْ أَخْطَأَ إِذْ كُلُّ بِدْعَةٍ لَا تُوصَفُ بِالضَّلالَةِ، فَإِنَّ الْبِدْعَةَ هُوَ مَا ابْتُدِعَ وَأُحْدِثَ فِي الأُمُورِ حَسَنًا كَانَ أَوْ قَبِيحًا، بِلا خِلافٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهَذَا مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْبِدْعَةَ لا تَكُونُ فِي الْخَيْرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ سَلِمَ فَإِنَّ الْبِدْعَةَ فِي هَذَا الأَمْرِ، وَهُوَ الْكَلامُ فِي اللَّهِ ضَلالَةً، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْمُحْدَثَاتِ فِي الأُمُورِ ضَرْبَانِ: مَا خَالفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا، فَهِيَ بِدْعَةُ الضَّلالَةِ، وَمَا أَحْدَثَ فِي الْخَيْرِ وَلَمْ يُخَالَفْ فَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَيْتَهُ سَكَتَ، وَلَمْ يَحْتَجَّ بِذَلِكَ، فَإِنَّ بِدْعَةَ الْكَلامِ فِي اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنَ الضَّلالَةِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ عُمَرَ، وَقَوْلَهُ: «نِعْمَةُ الْبِدْعَةُ هَذِهِ» .

وَذَلِكَ فِي الْخَيْرِ الَّذِي لَمْ يُخَالِفْ كِتَابًا وَلا سُنَّةً ثُمَّ ذَكَرَ كَلامًا عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ كَانَ أَسْتَرَ لَهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا سَمَّى أَبُو الْحَسَنِ مُنَاظَرَةَ الْمُعْتَزِلَةِ بِدْعَةً وَكَرِهَهَا، لأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَرَوْنَ مُكَالَمَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَمُنَاظَرَتَهُمْ خَطَأً وَسَفَهًا , وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلا تُفَاتِحُوهُمْ» .

فَلَوِ اسْتَحَى مَا ذَكَرَ هَذَا، مَعَ أَنَّ جَمِيعَ مَجَالِسِ الأَشْعَرِيِّ وَمُنَاظَرَاتِهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَبَعْدَهَا إِنَّمَا كَانَتْ مَعَهُمْ , ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا ظَهَرَتْ فِيمَا بَعْدُ أَقْوَالُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَاشْتَهَرَتْ وَعَظُمَتِ الْبَلْوَى بِفِتْنَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَانْتَشَرَتْ، انْتُدِبَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَمَا خَافُوا عَلَى الْعَوَامِّ مِنَ الابْتِدَاعِ وَالْفِتْنَةِ كَفِعْلِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ وَأَشْبَاهِهِ خَوْفًا مِنَ الْتِبَاسِ الْحَقِّ عَلَى الْخَلْقِ وَاشْتِبَاهِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٌ كِيدَ بِهَا الإِسْلامُ وَلِيًّا يَذُبُّ عَنْهُ وَالذَّابّ» .

لا تَحْضُرْ مَجَالِسَ الْبِدَعِ وَلا تَدَعْ أَهْلَهُ يَتَكَلَّمُونَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ أَهْلِ الْمُنْكَرِ يَتَلَبَّسُونَ بِالْفِعْلِ ثُمَّ نُنْكِرُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ قَبْلَ الْفِعْلِ.

ثُمَّ ذَكَرَ رِسَالَةَ الْبَيْهَقِيِّ إِلَى الْعُمَيْرِ وَمَدْحَ الأَشْعَرِيِّ فِيهَا وَأَنَّهُ شَيْخُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ هذيانَات نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَجَبْنَا عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ سَنَدَ رِسَالَةِ الْبَيْهَقِيِّ وَالْمِحْنَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فِي كَلامِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ كَانَ أَمَرَ بِلَعْنِ الْمُبْتَدَعَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَنَّ وَزِيرَهُ قَرَنَ اسْمَ الأَشْعَرِيَّةِ بِأَسْمَاءِ أَرْبَابِ الْبِدَعِ وَأَنَّهُ امْتَحَنَ الأَئِمَّةَ، وَعَزَلَ الصَّابُونِيَّ عَنِ الْخَطَابَةِ، وَخَرَّجَ الْجُوَيْنِيَّ وَغَيْرَهُ عَنِ الْبَلَدِ ثُمَّ أَنَّ ذَلِكَ السُّلْطَانَ لَمَّا مَاتَ وَتَوَلَّى ابْنُهُ فَرَدَّهُمْ وَبَنَى لَهُمُ الْمَسَاجِدَ وَالْمَدَارِسَ وَأَمَرَ بِإِسْقَاطِ ذِكْرِهِمْ فِي السَّبِّ وَاللَّعْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ رِسَالَةَ الْقُشَيْرِ فِيهِ وَنَوْحَهُ عَلَى الدِّينِ لِلَعْنِ الأَشْعَرِيِّ، وَأَنَّ الْمُبْغِضِينَ سَعَوْا إِلَى مَجْلِسِ السُّلْطَانِ بِالنَّمِيمَةِ، وَنَسَبُوا الأَشْعَرِيَّ إِلَى مَذَاهِبَ ذَمِيمَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ عُمَرَ الْمَاجِدَ الْقُشَيْرِيَّ دَفَعَ إِلَيْهِ هَذِهِ الرِّسَالَةَ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ أَنَّ الأَشْعَرِيَّ كَانَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَمَذْهَبُهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَرَدَّ عَلى الْمُخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْبِدْعَةِ، وَكَانَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُبْتَدِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْخَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ سَيْفًا مَسْلُولا وَمَنْ طَعَنَ فِيهِ، أَوْ قَدَحَ، أَوْ لَعَنَهُ، أَوْ سَبَّهُ , فَقَدْ بَسَطَ لِسَانَ السُّوءِ فِي جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ بَذَلْنَا خُطُوطَنَا طَائِعِينَ، وَكَتَبَهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْقُشَيْرِيُّ، وَفِيهِ خَطُّ الْخَبَّازِيِّ أَنَّهُ كَذَلِكَ نَعْرِفُهُ، وَكَذَلِكَ خَطُّ الْجُوَيْنِيِّ وَالشَّاشِيِّ، وَالْهَرَوِيِّ، وَالأَيُّوبِيِّ، وَالصَّابُونِيِّ، وَالْبَكْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَكُلُّهُمْ أَشَاعِرَةٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَهَذَا وَاللَّهِ هُوَ عَيْنُ الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، أَيْنَ كَتَبَهُ فِي الْحَدِيثِ؟ أَيْنَ مَنْ رَوَى عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ؟ أَيْنَ مَنْ رَوَى عَنْهُ؟ أَرُونَا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الإِسْلامِ مِنْ رِوَايَتِهِ , رَوَاهُ أَوْ رَوَى عَنْهُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، أَلَيْسَ يُوجَدُ لَهُ حَدِيثًا وَاحِدًا؟ وَلَيْتَ عِلْمِي مَتَى رَوَى الْحَدِيثَ؟ فَإِنَّهُ فِي ابْتِدَائِهِ كَانَ عَلَى الاعْتِزَالِ، مَا تَابَ مِنْهُ إِلَّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَمَتَى رَوَى الْحَدِيثَ؟ أَوْ مَتَى كَانَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّتِهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَذْهَبَهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَدَمُ التَّأْوِيلِ وَهُوَ يُؤَوِّلُ، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ تَرْكُ الْكَلامِ وَأَهْلِهِ، وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مَالِكِيًّا وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ كَانَ شَافِعِيًّا، وَقَدْ لَقِيَ جَمَاعَةً مِنَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَّهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَوَّى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ مَالِكِيًّا، وَكَأَنَّهُ كَانَ يُمَوِّهُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ وَيَتَمَعْمَعُ مَعَهُمْ لِيُوهِمَ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ حَالَةُ الزَّنْدَقَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَدَحَهُ، وَذَكَرَ عَنْهُ حِكَايَةً احْتَجَّ بِهَا وَقَوَّى أَنَّهُ كَانَ شَافِعِيًّا.

ثُمَّ قَالَ: بَابُ مَا اشْتُهِرَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ مِنَ الْعِلْمِ وَظَهَرَ فِيهِ مِنْ وُفُورِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَالْفَهْمِ.

عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْبَاهِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي جَنْبِ الأَشْعَرِيِّ كَقَطْرَةٍ فِي جَنْبِ الْبَحْرِ، وَأَنَّ ابْنَ الطَّيِّبِ قِيلَ لَهُ: كَلامُكَ أَفْضَلُ وَأَبْيَنُ مِنْ كَلامِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ أَفْضَلَ أَحْوَالِي أَنْ أَفْهَمَ كَلامَ أَبِي الْحَسَنِ، وَهَؤُلاءِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَرَادُوا فِي عِلْمِ الْكَلامِ، ثُمَّ أَخَذَ يَقْتَبِسُ بِمَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ فَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .

قَالَ: أَهْلُ الْفِقْهِ وَالدِّينِ وَأَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَانِيَ دِينِهِمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهُونَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَوْ أَنَّهُ اسْتَحَى لَكَفَّ عَنْ هَذَا، أَيُّ مَسْأَلَةٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ لَهُ فِيهَا قَوْلا، وَأَيُّ بَابٍ مِنَ الْفِقْهِ وَضَعَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الَّذِي عَلَّمَ النَّاسَ مَعَانِيَ دِينِهِمْ وَأَوْضَحَ حُجَجَهُ يُجِيدُ ظُهُورَ الْبِدَعِ فَيَا للَّهِ الْعَجَبُ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لا يَذْكُرُ لَهُمَا ذَلِكَ وَيَذْكُرُهُ لِمَنْ أَقَامَ عُمْرَهُ عَلَى الْبِدَعِ بِاعْتِرَافِهِ بِذَلِكَ.

ثُمَّ ذَكَرَ كَلامَ ابْنِ فُورَكٍ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيَكْفِي هَذَا مِنْهُ فَإِنَّ بَابَ الصِّفَاتِ وَأُصُولِ الدِّيَانَاتِ إِنَّمَا بَابُ النَّقْلِ لَا الْعَقْلِ، فَمَنْ جَعَلَ بَابَ ذَلِكَ الْعَقْلَ فَقَدْ أَخْطَأَ، ثُمَّ ذَكَرَ مُصَنَّفَاتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، الْمَعْرُوفِ بِقَاضِي الْعَسْكَرِ وَكَانَ مِنْ كُبَرَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ نَظَرَ فِي كُتُبٍ صَنَّفَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ قَالَ: فَوَجَدْتُ بَعْضَهَا لِلْفَلاسِفَةِ مِثْلَ إِسْحَاقَ الْكِنْدِيِّ، وَالإِسْفَرَازِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ خَارِجٌ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ زَائِغٌ عَنِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، لا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ لأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى الْمَهَالِكِ لأَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَمُسَمَّاهُ بِاسْمِ التَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا مَا أَمْسَكَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ شَيْئًا مِنْ كُتُبِهِمْ، قَالَ: وَوَجَدْتُ تَصَانِيفًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْفَنِّ لِلْمُعْتَزِلَةِ مِثْلَ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّازِيِّ، وَالْجُبَائِيِّ وَالْكَعْبِيِّ وَالنظامِ، وَغَيْرِهِمْ وَلا يَجُوزُ إِمْسَاكُ تِلْكَ الْكُتُبِ وَلا النَّظَرُ فِيهَا كَيْلَا تُحْدِثُ الشُّكُوكَ وَتُوهِنُ الاعْتِقَادَ، وَلِئَلَّا يُنْسَبُ مُمْسِكُهَا إِلَى الْبِدْعَةِ، وَلِهَذَا مَا أَمْسَكَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَ: وَكَذَا الْمجسمةُ صَنَّفُوا كُتُبًا فِي هَذَا الْفَنِّ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ الهيصمٍ، وَأَمْثَالِهِ وَلا يَحِلُّ النَّظَرُ فِيهَا وَلا إِمْسَاكُهَا فَإِنَّهُمْ شَرُّ أَهْلِ الْبِدَعِ، قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ فِي يَدِي بَعْضُ هَذِهِ التَّصَانِيفِ فَمَا أَمْسَكْتُ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَدْ وَجَدْتُ لأَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ كُتُبًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْفَنِّ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ مِائَتَيْ كِتَابٍ، وَالْمُوجَزُ الْكَبِيرُ يَأْتِي عَلَى عَامَّةِ مَا فِي كُتُبِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ الأَشْعَرِيُّ كِتَابًا كَبِيرًا لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الابْتِدَاءِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لَهُ ضَلالَهُمْ، فَبَانَ عَمَّا اعْتَقَدَهُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَصَنَّفَ كِتَابًا نَاقِضًا لِمَا صُنِّفَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ: وَقَدْ أَخَذَ عَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ خَطَّأَ أَبَا الْحَسَنِ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ، مِثْلَ قَوْلِهِ: الْكَوْنُ وَالْمُكَوّنُ وَاحِدٌ، وَنَحْوَهَا , قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا لا تُكْسِبُ أَبَا الْحَسَنِ تَشْنِيعًا، وَلا تُوجِبُ لَهُ تَكْفِيرًا وَلا تَضْلِيلا وَلا تَبْدِيعًا، وَلَوْ حَقَّقُوا الْكَلامَ فِيهَا لَحَصَلَ الاتِّفَاقُ وَبَانَ أَنَّ الْخِلافَ فِيهَا حَاصِلَةُ الْوِفَاقِ، وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَقْصِدُ دَفْعَ قَوْلِ خَصْمِهِ إِبْرَامًا وَنَقْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ كَلامًا يَتَذَكَّرُهُ فِي ذَلِكَ:

وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... وَلَكِنَّ عَيْنَ السّخطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيا

ثُمَّ قَالَ:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015