القصد وعدم الإكراه

بقي الشرط الثالث ما هو؟ القصد، يمكن أن نستدل عليه بقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] .

وفي قوله تعالى في جزاء الصيد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فإن قوله: {مُتَعَمِّداً} [المائدة:95] يخرج من ليس بمتعمد، فلابد من القصد.

الذي لا يُقصَد له أنواع: منها: الإكراه: أن يُكره الإنسان على الشيء، فإذا أكره على الشيء، فإنه لا يلحقه حكم، يعني: يُعفى عنه، والدليل قوله تعالى في أعظم المحرمات، وهو الكفر: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل:106] نعم، فهذا يدل على أن المُكرَه على فعل المحرم معفوٌّ عنه، لا يلزمه شيء.

وبناءًَ على ذلك: لو أن الرجل أكره زوجته الصائمة فجامعها، فإن صومها صحيح، وليس عليها شيء، وتستمر في صيامها؛ لأنها مكرهة.

ولو أن شخصاً أكره صائماً على أن يأكل، وقال: كُلْ وإلا حبستك، وخاف أن ينفذ ما قال، فأكل، فليس عليه شيء؛ لأنه مكره.

ولو أن الإنسان تمضمض وهو صائم، فنزل الماء من فمه إلى معدته بدون قصد، فصومه صحيح؛ لأنه لم يتعمَّد، وقد قال الله تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] صومه صحيح.

ولو أن المريض المغمى عليه صُب في فمه ماء من أجل أن يستيقظ، فهل يُفطر؟ لا.

لماذا؟ لأنه بغير قصد، هو ما قصد؛ لكن صبُّوه عليه، وقال بعض العلماء في هذه المسألة بالذات: إنه يُفطر؛ لأنه لو كان صاحياً لرضي أن يُعالج حتى يزول عنه الإغماء؛ لكن المشهور عند الحنابلة رحمهم الله: أنه لا يفطر بهذا؛ لأنه ليس بقاصد، وإن كان يرضى؛ لكن هو الآن غير قاصد.

فصارت هذه الشروط إذا انتفى واحدٌ منها فإنه لا فطر، والصوم صحيح، ويبقى الإنسان صائماً، لا ينقص من صيامه شيء.

لو أن شخصاً تطيَّب ببخور، وطار شيء من دخان البخور إلى أنفه، ثم إلى جوفه بدون قصد، فليس عليه شيء؛ لأنه غير قاصد.

واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة، وهي: إذا أكره الإنسان على فعلٍ محرم: فإذا فعله لدفع الإكراه لا لقصد الفعل فلا شك أنه معذور، ولا خلاف في ذلك.

لكن إذا فعله لقصد الفعل؛ غاب عن باله أنه يريد دفع الإكراه، فهل يسقط عنه إثم هذا الفعل أو لا؟ قال بعض العلماء: لا يسقط عنه؛ لأنه نوى الفعل.

وقال آخرون: بل يسقط عنه؛ لعموم الأدلة الدالة على أنه يُعفى عن الإنسان في حال الإكراه؛ ولأن العامي لا يفرق بين أن يفعل الشيء لدفع الإكراه أو يفعله بقصد فعله.

مثال ذلك: جاء شخص إلى عامي وأكرهه على أن يُفطر وهو صائم، قال: لازم تفطر وإلا، يهدِّده، فأخذ الماء وشرب، قصَد شُرب الماء؟ نعم قاصد، قصَد شُرب الماء، هذا واحد.

ثانياً: عامي أكرِه على أن يُفطر وهو صائم، فأخذ الماء فشربه دفعاً للإكراه، لا قصداً للشرب.

الثاني: لا يفطر، لا إشكال فيه، قول واحد؛ لأنه ما قصد الفعل، قصد دفع الإكراه.

والأول: فيه خلاف: فمنهم من قال: إنه يؤاخذ لأنه قصد الفعل.

ومنهم من قال: لا يؤاخذ لأنه وإن قصد الفعل فهو مكره على الفعل.

وهذا الأخير أصحُّ، ما لم يتناسى الإكراه نهائياً، ويعتمد على أنه سيعمل هذا المُكرَه عليه، فإنه حينئذٍ لا شك أنه اختار.

فالأحوال إذاً ثلاثة: أن يقصد دفع الإكراه دون الفعل، فهذا لا إشكال أنه لا حرج عليه.

الثاني: أن يقصد الفعل؛ لكن من أجل الإكراه؟ ففيه خلاف، والصحيح: أنه لا حرج عليه.

الثالث: أن يقصد الفعل متناسياً للإكراه؛ يعني: كأنه يقول: لما أُكرِهتُ أريد أن أفعل إذاًَ، ويفعله اختياراً، فهذا لا شك أنه عليه الحرج، وعليه حكم هذا الفعل.

وإلى هنا ينتهي الكلام على المفطِّرات، وقد عرفنا شروطها، ومعرفة الشروط مهمة، وأخذنا من هذا التقرير قاعدتين مهمتين، وهما: أن فعل المأمور لا يسقط بالجهل، والنسيان، وعدم القصد.

بخلاف ترك المحظور، إذا فعل الإنسان المحظور جاهلاً، أو ناسياً، أو غير قاصد، فلا شيء عليه.

والله الموفق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015